د. سعيد حارب الاتحاد الاماراتية سأل صديقي الطبيب أحد زملائنا من المشتغلين بالعلم الشرعي عن مشكلة يواجهها كثير من الأطباء، وهي أنهم حين يقومون ببعض العمليات الجراحية، يصعب عليهم ترك المريض، والتوجه لأداء الصلوات في أوقاتها، وربما دخل وقت الصلاة الأخرى في أثناء إجراء العملية الجراحية، فأجابه زميلنا الشرعي بما يفيد إمكانية جمع صلاتين في وقت واحد، واستشهد على ذلك بقول لأحد الأئمة المتقدمين مع أدلته الشرعية، فقال صاحبنا الطبيب مازحا: «أنتم أيها المطاوعة تخفون عنا (الزينة) وتحتفظون بها لكم، وتشددون علينا حين نسألكم!». تذكرت هذا الموقف الطريف وأنا أتابع الحوارات التي تتم حول موضوع الاختلاط بين الجنسين، وكيف أن هذه الحوارات فتحت مجالات واسعة لم يكن كثير منا يعلمها حول هذا الموضوع، حيث ذهب بعض العلماء الشرعيين إلى التحدث عن الاختلاط وكأنه مسألة حادثة، أو من مستجدات القضايا، كما يقول الفقهاء، علما بأن هذا الموضوع ليس بالجديد، واكتشفنا آراء تذهب إلى أن مصطلح الاختلاط ليس مصطلحا إسلاميا، بل هو مصطلح «لاهوتي كنسي»! وأنه لم يرد في الإسلام بهذا اللفظ، وإنما هناك مصطلح «الخلوة». وفرق بين الاختلاط والخلوة غير الشرعية. وحين تابعت هذه الحوارات، ظننت أننا نكتشف أشياء جديدة في الإسلام!! وأن هناك قضايا ما زالت خافية، وعلينا اكتشافها من جديد، ويبدو أن هذه الظاهرة متكررة في السنوات الأخيرة، ولعل قضايا العلاقة مع الآخر من القضايا التي تم «اكتشافها» مؤخرا، فمن يتابع الكتب التي صدرت والمؤتمرات والندوات التي أقيمت حول الحوار مع الآخر، يظن أن هذا الآخر هبط من الفضاء، أو نبت من جوف الأرض، أو أنه لم يكن شريكا لنا في الحياة، منذ وجد إنسان على سطح هذه الأرض. و«اكتشفنا» أن الإسلام ينظم علاقتنا بهذا الآخر سلما أو حربا، وأن طبيعة العلاقة بينا هي التعارف والتواصل الإنساني واحترام حريته واختياره، وأن الحرب معه حالة استثنائية، وليست حالة دائمة. وقد «انبهر» بعضنا بموقف الإسلام من ذلك، وكأنه يكتشفه للمرة الأولى! ومثل «اكتشاف» الآخر البعيد، جاء الموقف من الآخر القريب، أي الطوائف التي تنتمي للإسلام، ورأينا خطابا معتدلا متسامحا تجاهها، بل متحاورا معها، وكأننا نتعرف إليها للمرة الأولى كذلك، على الرغم من أن بعضنا كان يصفها بصفات تخرجها من «دائرة الإسلام».. فما الذي حدث؟.. هل اكتشفنا الإسلام من جديد؟ أم تغيرت الدوافع والأسباب؟ أم يأتي ذلك في سياق تطور الفكر الإسلامي المعاصر. إن هذه الظاهرة، على الرغم من سلبيتها التي كشفت عن جمود الموقف الفكري الإسلامي لسنوات طويلة عند آراء محددة، إلا أن لها جانبا آخر ينبئ بحراك إيجابي في هذا الفكر، علينا تنميته وتطويره. فالفكر الإسلامي فكر إنساني وإن استند إلى نصوص شرعية، إلا أنه لا يملك قدسية النص الشرعي، بل هو فكر قابل للصواب والخطأ والتصويب والمراجعة، بل هو بحاجة دائمة للتطوير، حتى يستطيع أن يواكب مستجدات الحياة. إن لدى البعض خلط بين النص الشرعي، والفكر الإسلامي المستنطق من هذا النص.. ولذا فليس هناك ما يمنع من مراجعة كثير من القضايا التي استقر عليها الفكر الإسلامي. ويمثل موضوع الاختلاط واحدا من الموضوعات التي طرحت للحوار، وهناك قضايا أخرى مطروحة للمناقشة، مثل القضايا المتعلقة بالمرأة ومشاركتها في الحياة العامة، أو بممارستها للدور السياسي في مجتمعاتها، ومثل ذلك أيضا القضايا المتعلقة بالفنون كالتمثيل والموسيقى والسينما والرسم أو القضايا المتعلقة ببعض المعاملات المالية التي مازالت غير واضحة، وغيرها من القضايا التي لم تحسم في الفكر الإسلامي المعاصر. وإذا كان الاختلاط ليس موضوعا جديدا، فإن هناك قضايا تستجد كل يوم، ولا بد من مناقشتها، بل هناك العشرات من القضايا التي يعاد النظر فيها من جديد لدى طائفة من العلماء والباحثين في العلوم الشرعية، وعلينا ألا نضيق بالآراء التي تطرح من أي طرف، بل علينا احترام جميع الآراء، وبخاصة إذا استندت إلى الأدلة الشرعية. كما أن المتحاورين في هذه القضايا يسعون إلى تجلية الحقيقة والبحث عن الحكم الشرعي الذي يرونه صوابا.. ولذا فليس من المتصور أن يزعم أحد أنه يملك الحقيقة وحده، بل إن احترام الرأي الآخر أبرز صفات من يطلب الحقيقة. وتلك سنّة سار عليها الفقهاء والأئمة قديما. فالإمام مالك، رحمه الله، كان يقول: كل إنسان يؤخذ منه ويرد إلا صاحب هذا القبر. وكان بذلك يشير إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم.. والشافعي يقول: «رأيي صواب يقبل الخطأ، ورأي غيري خطأ يقبل الصواب»، بل إن الشافعي «عدّل» في آرائه الفقهية بعد رحيله من العراق إلى مصر، حين رأى اختلافا في الحياة الاجتماعية بين كلا البلدين. ولا يعني ذلك أنه أحلّ حراما أو حرّم حلالا، لكن أعاد النظر في بعض اجتهاداته الفقهية التي استنبطها من الأدلة الشرعية وفقا لتغير البيئة والظروف، وهي نظرية فقهية يدرسها طلاب الكليات الشرعية، لكن قليلا من يجتهد فيها. إن بعض الباحثين يخشون من أن يؤدي ذلك إلى فتح باب التساهل الفقهي الذي قد يؤدي إلى المفاسد، فيما يسمى بقاعدة «سد الذرائع». والواقع أنه مع أهمية هذه القاعدة، إلا أنها لا تنطبق على جميع الأحوال، إذ إن باسم هذه القاعدة أغلق كثير من الأبواب المفتوحة التي لا تخالف نصا واضحا، لكن اجتهاد بعض الفقهاء أغلقها تحت هذه الذريعة أو خوفا من المفسدة كما يظنون.. وبالمقابل هناك من يذهب إلى التساهل في مسائل قطعية باسم التيسير والتخفيف على الناس، فوقع الناس بين تشدد ضيق عليهم الحياة، وتساهل أوقعهم فيما يحذرون منه. وهذا ما تشير إليه مظاهر التشدد التي تشهدها مجتمعاتنا، ومحاولة بناء «مجتمع» وفق مواصفات يعتقد أصحابها أنها الأسلم لهم، فضيقوا بذلك كثيرا من المباحات خوفا من الوقوع في المخالفات الشرعية. إن الحراك الذي تشهده مجتمعتنا يجب ألا يخيفنا، سواء قبلنا الآراء أم رفضناها، فالحراك الفكري في أي مجتمع ظاهرة صحية، وقبول ما يطرح دليل على وعي بأهمية التطور الفكري في المجتمعات. فالتطور الذي شهدته المجتمعات الإسلامية خلال مراحلها التاريخية المتتالية، لم يكن إلا وليد هذا الحراك الذي أخذ صورا كثيرة حفظت لتلك المجتمعات استمراريتها، وحين غاب ذلك الحراك تجمدت هذه المجتمعات وتوقف دورها في المسيرة الإنسانية. كاتب من الإمارات