عُقدت يوم الأحد ما قبل الماضي أولى جلسات ( جماعة فكر ) وهي جماعة تابعة في نشاطها لنادي القصيم الأدبي ببريدة , وكان عنوان الجلسة ( علاقة الفلسفة بالعلم ) من إعداد الدكتور عبد الله البريدي . وسيقوم كاتب هذه السطور بتقديم الورقة القادمة في الثالث عشر من شهر ذي القعدة الحالي والموافق ليوم الأحد القادم , وعنوان الورقة هو ( التفكير المُجرد ) , كما ستكون الجلسة الرابعة من إعداد الزميل عبد العزيز بن علي السويد في شهر ذي الحجة المُقبل , وموضوعها عن التيارات الفكرية السعودية . والرابط المشترك بين هذه المواضيع الثلاثة أنها تتطرق جميعها للشأن الفكري المجرد وتسعى ما أمكنها إلى التماس أفكار هذا العصر وجدالاته الخصيبة . والذي يقرأ وقائع ومعطيات الفكر السعودي الحالي سيجد أن هذه الجماعة لم تنشأ مُنفصلة عن التطورات الفكرية المتأخرة , فالفكر المجرد , والفلسفة , والمناهج النقدية الشمولية , هي ميادين وحقول فكرية استحثت عدداً من المهتمين والباحثين من شتى التخصصات والمجالات للتفكير والاهتمام الجاد فيها , كما أن هذه الجماعة في نشاطها الفكري تتواكب مع ظهور الحلقة الفلسفية في نادي الرياض الأدبي وجماعة الحوار في نادي جدة الأدبي , كما تتزامن أيضاً مع انعقاد الندوات الفكرية والفلسفية في نادي حائل الأدبي والذي يملك جهوداً بارزة ورائدة في هذا المجال الهام , فضلاً عن المحاضرات والأمسيات المتناثرة في عدة مرافق وميادين ثقافية في المملكة مما لا يسع ذكرها كلها ههنا . ولعلني لا أبالغ إن قلت بأن النمط القادم من أنماطنا الثقافية هو نمط ( الفكر المُجرد )على مُختلف تشعباته وأركانه , فلسفةً واجتماعاً واقتصاداً وسياسة وديناً , وقد يطيب لي أن أكشف عن نزعتي المنحازة نوعاً ما إلى هذا الاتجاه الجديد في خطابنا الثقافي السعودي بصفتي أحد المهتمين الشباب بهذا الضرب من ضروب المعرفة الفلسفية : فقد انتهى زمن التقوقع على الخطاب الأدبي « البحت « منذ الثمانينات وهو ما أسميته في إحدى الورقات بالخطاب الإنشائي الذي يدور حول ذاته ولا يبارح موقعه الجمالي . وبنظري فإن الخطاب الوعظي والصحوي والثوري , أيضاً , قد انتهى زمنه , لأنه لا يُلامس عمق الأخلاق الإنسانية بقدر ما يلامس قشورها الوجدانية فقط , أما الخطابات الاستهلاكية ( الاقتصادية ) والإثارية ( الإعلامية ) فهي الأخرى تحتاج للتحليل والنقد , وبرأيي فإن هذا الجيل المتجه اتجاهاً قوياً نحو التفكير المجرد والفلسفة , لهو الجيل الذي يقع على عاتقه تحليل , وتفكيك , هذه الأنماط الخطابية والأيديولوجية , بغية فهمها أولاً , ثم تغييرها , على ضوء فكرة مثالية وإنسانية منشودة , وعلى ضوء مبتكرات فلسفية ونظرية تنبع من رؤانا الذاتية الحية والمُجتهدة. والمتابع للحركة الفكرية السعودية سيلحظ أنها بدأت ترمي الحجارة الصلبة في المياه الراكدة لتُحدث على أثر ذلك موجات وحلقات على سطح مياهنا العقلية , فنحن بالتأكيد نتفاعل مع العالم الحديث والمُعاصر , ولسنا بمعزولين عنه ولا منفصلين , كلا ولسنا بأقل شأناً ولا شأواً من غيرنا . والفكر , مثله مثل غيره من النشاطات الإنسانية , هو « ملكة « فطرية في العقل البشري , وهو ينمو أو يتقلص بحسب الجهد المبذول في سبيل تطويره وإثرائه , وقد يبدو مشهدنا الفكري متواضعاً قليلاً إذا ما قورن بالمشهد الفكري العالمي , بيد أن هذا بشير خيرٍ بحد ذاته , لأن البدايات , أياً كانت , هي دائماً بطيئة ومتواضعة , ولكن المهم أن تكون ثابتة ومضطردة , مهما طالت مدة الانتظار , ومهما بدا الأمل ضعيفاً في مُستهل الأمر . ومنطقة القصيم بالذات كانت ولا تزال رافداً من روافد الفكر والأدب والثقافة , لا أقول في المملكة العربية السعودية لوحدها ولكن على مستوى العالم العربي ككل , وهي لا تخلو قطعاً من الأسماء المبدعة واللامعة على الصعيد الثقافي , ليس في الماضي فحسب , وليس في الأجيال السالفة فقط , ولكن حتى في شبابها الذين أخذوا على عاتقهم تأسيس هذه الجماعة الفكرية ليكوّنوا بؤرة جديدة من بؤر التفكير النقدي والمتجاوز للأطر الضيقة والنقاشات التقليدية العقيمة التي عفا عليها الزمن . وما من ريب أن وجود هذه الجماعة وتحت مظلة رسمية هو دافع إيجابي من دوافع التفكير والإبداع , وهو دلالة ملموسة وواقعية على تعاضد الوزارة ممثلة بالنادي الأدبي والتابع لوزارة الثقافة والإعلام مع الجيل الجديد من الشباب المتحمس لخدمة ثقافته العربية الأصيلة وبما يخدم الوطن والإنسان والقيم العظمى التي اتفق حكماء البشر على إعلائها وجعلها أولوية من أولويات الوجود الإنساني . وليس الأمل أن تكون هذه الانتفاضة الفكرية محصورة بمنطقة القصيم وإنما هي حركة فكرية شاملة ترمي إلى التجديد الفكري والتحديث العقلاني بما يتناسب مع واقع الأمة العربية وواقع العالم المعاصر وتطوراته