سليمان بن أحمد بن عبدالعزيز الدويش - نقلا عن منتديات الحرة بسم الله الرحمن الرحيم الحمدلله رب العالمين , والصلاة والسلام على نبينا محمد , وعلى آله وصحبه أجمعين , ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . أما بعد: فقد اطلعت على ما صرَّح به معالي وزير العدل - حفظه الله - , وما أدلى به من رأي حول جامعة الملك عبدالله , ثم ما تناوله من مناقشة لقضية الاختلاط , وكيف بلغ به الحد إلى تبديع هذا المصطلح , واتهام المانعين للاختلاط , وتصويرهم وكأنهم شرعوا من الدين مالم يأذن به الله , وأنهم يخلطون بسوء فهم بين الخلوة والاختلاط , وما ساقه من شواهد وأدلة تدعم رأيه . ولي مع ما قاله عدة وقفات : الوقفة الأولى : لا أعلم أحداً ممن تحدث عن هذه الجامعة استنكر تأسيسها , أو طالب بطمس معالمها , أو ناشد الملك بإلغائها , بل كل من تحدَّث عنها أثنى عليها على اعتبار أنها جامعة علمية بحثية تطويرية , وهذا الصرح وغيره من الصروح المماثلة له , مما تحتاجه الأمة , وتعتبره مفخرة لها , ولكنهم توقفوا عند مسألة الاختلاط , ورأوا أن ذلك يسيء إلى حلم خادم الحرمين الشريفين , وهم بهذا يريدون لهذا الحلم أن يتحقق بأبهى صورة , وأجمل حلة , ولهذا فالحديث عن مكانة هذه الجامعة , أو مسيس الحاجة لها , أو أنها واجهة حضارية , لا مكان له في مناقشة من اعترض على مسألة الاختلاط , لأن ذلك التلبيس مصدره الإعلام الإقصائي المتجني , الذي أراد تشويه صورة من اعترض , بتلفيق تهمة محاربة العلم والحضارة له , وهي تهمة انطلت على كثير ممن انبرى للمناقشة , فزعم أن المعارض للاختلاط رافض للجامعة بالكلية , وهذا مما يجب أن يفطن له المناقش , حتى يكون عدلا في مناقشته , وحتى لا تتأسس المناقشة على أرضية متوترة . الوقفة الثانية : دعني أسلم لك أن الاختلاط جائز , وأنه لاشيء فيه , وسأسألك أيهما أبعد للفتنة وجوده أو عدمه ؟ , فإن قلت : وجوده أبعد , فقد تكلَّفت مالا يجمل بك تكلفه , وخالفت السنن والفطرة , وإن قلت : بل تركه أبعد , فكان الأجدر بك أن تساهم في تحقيق حلم القائد – حفظه الله – بأكمل الصور وأبهاها , وهذا على اعتبار أن الأمر في الاختلاط جائز , فكيف والأمر به محل نزاع قوي , لايسقطه ما ذهبت إليه . الوقفة الثالثة : قبل أن أنتقل إلى ماسقته من الأدلة والشواهد , سأنتقل بك إلى حقبة من الزمن مضت , كان الحاكم فيها مؤسس هذه البلاد , وكان العلماء فيها هم أشياخ أشياخك , ولا إخالك إلا وقد قرأت ما سطره الملك المؤسس – رحمه الله - , حول الاختلاط , وما حكاه من أنه من الأخطار والفساد والفتنة , وكلامه في هذا من أنفس الكلام وأجمله , فهل يليق بأحد أن يتهم هذا الرجل بمجاوزة الشريعة , أو المغالاة فيها , أو الابتداع في دين الله , أو الجهل في التفريق بين الخلوة والاختلاط ؟ . أعتقد أن من قرأ كلامه , ورأى ما سطَّره علماء المسلمين في ذلك العصر الذي ينادى فيه المفتونون بالاختلاط , ورأى ماجرّه التساهل فيه من فتنة على المجتمعات التي تساهلت فيه , أدرك أن المانعين له , أكثر فطنة , وأعمق رؤية , وأعظم حمية , وأبعد في النظر في مقاصد الشريعة , وأقرب لموافقتها , ومعرفة حكمتها , ممن أخذوا بالمتشابه , أو استمسكوا بأهداب الأمور . الوقفة الرابعة : ما ذكرته من التوجس في شأن الاختلاط , وأنه لايعرف في قاموس الشريعة إلا في أحكام محدودة كمباحث الزكاة , المنبتة الصلة عن معنى هذا المصطلح الوافد ، ليشمل في الطروحات المتأخرة ببدعة مصطلحية لا تعرف في مدونات أهل العلم ، في سياق تداخل مصطلحها المحدث بمصطلح الخلوة المحرمة التي لا تجيزها فطرة أي مسلم له كرامة وشيمة ، فضلاً عن احترامه لأحكام شريعته التي صانت الأعراض، ووضعت السياج المنيع، لأي سبيل قد تخترق هذه المُسلَّمة الإسلامية المتفق عليها . أقول : هذا من اللبس الذي وقعت فيه أنار الله بصيرتك , لأن الاختلاط ليس أمراً محدثاً كما ظننت , ولفظه ليس مبتدعاً , وليس يلتبس على من أنكره أمره بمسألة الخلوة المحرمة , بل ذلك الادعاء من تلبيسات الإعلاميين , التي آسف أن تكون انطلت عليك , فتلقفتها حقيقةً مسلَّمة , لأن من أنكر الاختلاط يعرف الفرق بينه وبين الخلوة , وهو حين يستدل لمنعه , فلا يستدل بأحاديث الخلوة المحرمة , بل تراه يذكر أحيانا أنه " الاختلاط" يشتد حرمةً إذا صاحبته الخلوة , أو كانت نتيجة له , وهذا دليل على تفريقه بين الأمرين . وكنت أتمنى لو أنك طالبتهم ببيان ماعندهم حول ما أوردته من الشبه , قبل أن تنفي وجود هذا المصطلح في مدونات أهل العلم , لأن هذا من القول على أهل العلم بلا بينة , ولا أظنك تجهل ماجاء في صحيح الإمام البخاري رحمه الله حيث قال : ( قال لي عمرو بن علي حدثنا أبو عاصم قال ابن جريج أخبرنا قال أخبرني عطاء إذ منع ابن هشام النساء الطواف مع الرجال قال كيف يمنعهن وقد طاف نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجال قلت أبعد الحجاب أو قبل ؟ قال : إي لعمري لقد أدركته بعد الحجاب قلت: كيف يخالطن الرجال ؟ قال: لم يكن يخالطن كانت عائشة رضي الله عنها تطوف حَجْرة من الرجال لاتخالطهم فقالت امرأة انطلقي نستلم يا أم المؤمنين قالت انطلقي عنك وأبت يخرجن متنكرات بالليل فيطفن مع الرجال ولكنهن كن إذا دخلن البيت قمن حتى يدخلن وأخرج الرجال وكنت آتي عائشة أنا وعبيد بن عمير وهي مجاورة في جوف ثبير قلت وما حجابها قال هي في قبة تركية لها غشاء وما بيننا وبينها غيرذلك ورأيت عليها درعا موردا ) , وماجاء في فتح الباري للإمام ابن حجر رحمه الله ونصه : ( قال ابن دقيق العيد : هذا الحديث عام في النساء , إلا أن الفقهاء خصوه بشروط : منها أن لا تتطيب , وهو في بعض الروايات " وليخرجن تفلات" قلت : هو بفتح المثناة وكسر الفاء أي غير متطيبات , ويقال امرأة تفلة إذا كانت متغيرة الريح , وهو عند أبي داود وابن خزيمة من حديث أبي هريرة وعند ابن حبان من حديث زيد بن خالد وأوله " لا تمنعوا إماء الله مساجد الله " ولمسلم من حديث زينب امرأة ابن مسعود " إذا شهدت إحداكن المسجد فلاتمسن طيبا " انتهى . قال : ويلحق بالطيب ما في معناه لأن سبب المنع منه ما فيه منتحريك داعية الشهوة كحسن الملبس والحلي الذي يظهر والزينة الفاخرة وكذا الاختلاط بالرجال ) , أو ما في الطرق الحكمية للإمام ابن القيم رحمه الله حيث ورد ما نصه : ( وله أن يحبس المرأة إذا أكثرت الخروج من منزلها ولا سيما إذا خرجت متجملة بل إقرار النساء على ذلك إعانة لهن على الإثم والمعصية والله سائل ولي الأمر عن ذلك , وقد منع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه النساء من المشي في طريق الرجال والاختلاط بهم في الطريق , فعلى ولي الأمر أن يقتدى به في ذلك , إلى أن قال رحمه الله : ( ولا ريب أن تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال أصل كل بلية وشر وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامة كما أنه من أسباب فساد أمور العامة والخاصة واختلاط الرجال بالنساء سبب لكثرة الفواحش والزنا وهو من أسباب الموت العام والطواعين المتصلة ) . وغير ذلك من كلام أهل العلم كثير وكثير , ولكني تركته خشية الإطالة , فلا أدري يامعالي الشيخ , هل تعتبر من نقلت عنهم من أهل العلم , وهل ترى أن ماسطروه فيها مدونات علمية , أم أنك لاتراهم بلغوا هذه المنزلة ؟ . فإن كنت ترى علميتهم وأهليتهم فلماذا نفيت وجود هذا المصطلح في مدونات العلماء ؟ , وإن كنت لاترى ذلك فليتك تخبرنا عن العلماء الذين عنيتهم بقولك حتى ننظر في الأمر , ونراجع ثقتنا بهؤلاء الأئمة الأثبات !! . الوقفة الخامسة : ما ذكرته بقولك : ( لقد حرم مفهوم الاختلاط المحدث ، ونعى ( من حيث يعلم أو لا يعلم ) على مشاهد في السيرة النبوية ، وسيرة الخلافة الراشدة ، وسلف أمتنا الصالح ، ومن لازمة التعقب على المشرع ، يقول المولى جل وعلا : « ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون » . وفرق بين لقاء تجمعه الحشمة والعفة على رؤوس الأشهاد ، متوخياً التحفظ من أي طريق قد تفضي للمحظور الشرعي ( كالخضوع في القول ، والتبرج ، والزينة ، والتساهل في التحفظ ، وغض البصر ، واحتكاك أي منهما بالآخر ) ، وبين لقاء على غير هذا الهدي الإسلامي المبارك . وبضوابط الشريعة سار ركب المجتمع المسلم ، في صور حية نشهدها كل يوم في شعائرنا : كالصلاة والحج والعمرة ، وكذا معاملات الناس بيعاً وشراء ، حيث دعيت المرأة للشهادة « واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء » ، وكيف تكون شهادة المرأة على البيوع كما أراد الله ، وهذا المصطلح المحدث (الاختلاط) بين أظهرنا خالطاً بينه ، وبين مفهوم الخلوة المحرمة . ) فيه مسائل : المسألة الأولى : من الذي أحدث هذا المفهوم ؟ , وهل فعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم , ورضي عنهن , من المحدثات , وقد سقته لك من صحيح البخاري رحمه الله ؟ . المسألة الثانية : لماذا جعلت من دعى إلى البعد عن الفتنة ممن ينعى من حيث يعلم أو لايعلم مشاهد في السيرة النبيوية , وسيرة الخلفاء الراشدين , وسلف الأمة الصالح , وهاقد أوردت لك من أحوالهم ما يؤكد إنكارهم لأمر الاختلاط , وإذا كان الحريص على دفع الفتنة ينعى تلك المشاهد , فقل لي بربك ماحال من دعى إلى الاختلاط أو هوَّن من شأنه ؟ . المسألة الثالثة : من قال إن من لازم إنكار الاختلاط التعقب على شرع الله ؟ , ولماذا لايكون العكس هو الصحيح , وأن من لازم إباحته القول على الله بلاعلم , وذلك لأن الاختلاط مما ورد استهجانه حتى في الأمم السابقة ( قالتا لانسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير ) . المسألة الرابعة : هل تعلم لقاء تجمعه الحشمة والعفة على رؤوس الأشهاد , أعظم من الالتقاء في بيوت الله تعالى ؟ , فإن قلت : نعم , فراجع نفسك , وإن قلت : لا , فلن تكون أغير على الأمة , ولا أنصح لها , ولا أبرَّ بها , ولا أصدق معها , ولا أدرأ للفتنة عنها , من محمد صلى الله عليه وسلم الذي قال : ( لو تركنا هذا الباب للنساء . قال نافع : فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات ) رواه أبو داودوغيره عننافععنابن عمررضي الله عنهما , قال صاحب عون المعبود في شرح هذا الحديث ما نصه : ( في شرح الحديث : باب اعتزال النساء في المساجد عن الرجال : ( لوتركنا هذا الباب ) : أي باب المسجد الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم( للنساء ) : لكان خيراً وأحسن لئلا تختلط النساء بالرجال في الدخول والخروج من المسجد . والحديث فيه دليل أن النساء لا يختلطن في المساجد مع الرجال بل يعتزلن في جانب المسجد ويصلين هناك بالاقتداء مع الإمام ، فكان عبد الله بن عمر أشد اتباعاً للسنة ، فلم يدخل من الباب الذي جعل للنساء حتى مات ) , ومرَّ معنا قبل كيف كانت عائشة رضي الله عنها تصنع في الطواف , ومثلك لايخفاه أن دور التعليم المختلطة , وخاصة في زمننا هذا , وفي ظل تعدد الثقافات , ومايسمى بالحريات , فلن يستطيع أحد تطبيق نظام يمكن من خلاله منع بعض تلك المحرمات التي ذكرت , ومنها غض البصر , أو إبداء الزينة من الثياب ونحوها , بل كيف يمكن غض البصر في مثل تلك الأماكن وقد رأينا ماتجاوز غض البصر إلى التصوير جنبا إلى جنب , والجلوس على طاولة واحدة للحديث أو الأكل أو غيره . المسألة الخامسة : لا أدري هل أنت تعيش الواقع كما هو , أو ينقل إليك !! , لأني رأيتك تستشهد بالصلاة على إجازة الاختلاط , وأنت تعلم أن مساجدنا ولله الحمد بما في ذلك الحرمان الشريفان , لايسمح فيها باختلاط الجنسين , إلا مايكون في الطواف عند اشتداد الزحام , وصعوبة التفريق , ومثل ذلك في الشهادة أو البيع والشراء , فإنها لاتكون على نحو مايكون في دور التعليم المختلطة , بل هي لحظة يسيرة عابرة , دعت إليها الحاجة , في حين لم تدعُ الحاجة إلى الاختلاط في التعليم , بل ثبت أن الاختلاط في التعليم مما يعيق نجاحه , ومما يخلق مفاسد في الأخلاق لا يجوز إنكارها أو تجاهلها , وإذا كنا نسمع اليوم من المشاكل في الأسواق , والفتن والفساد والفوضى , مع وجود المحتسبين وأهل الغيرة , فكيف حين يغيب الآمر والناهي , وهذا مما لاحجة لك فيه , فاحتجاجك في البيع والشراء , وذهاب المرأة للسوق , يثبت أن الاختلاط خطر , فإنه إذا كان وقع فيها " الأسواق " الفساد , بل وقع فيما حاجة الناس إليه أشد كالمستشفيات ونحوها , و فيما لايخطر على بال وقوعه فيه كالحرمين , فمن باب أولى أن يقع فيما هو أكثر بعداً عن عين الرقيب البشري . المسألة السادسة : الاستشهاد بشهادة المرأة لاحجة فيه , ولايصلح بمن يناقش مسألة علمية أن يتناولها بهذا الطرح البارد , فالله بدأ بالرجلين , وأخبر أنه إن لم يكونا فيصار إلى رجل وامرأتين , ولايلزم من ذلك أن يقع الاختلاط , ولو وقع الاختلاط لكان محمولا على الحاجة إليه , وهو يختلف عمَّا لاحاجة إليه , بل الحاجة تدعو إلى تركه . الوقفة السادسة : قولك : ( إننا - بفضل الله - لا نقل غيرة على محارم الله، ولا على تقديرنا لأبعاد الفساد الأخلاقي الذي ينافي مقاصد العلم والمعرفة ، ويفسد المجتمعات ، لكننا أمام شريعة غراء فهمت عن أحوال الناس مقصادهم وما تصلح به أمورهم ، فوضعت قواعد وحواجز فحرمت أموراً ، وأجازت أخرى ، بضوابط لا تفضي للمحرم ، وتلك شريعة الكمال التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها تنزيل من حكيم حميد ، وتحذير نصوصها من الخلوة المحرمة ، والتبرج أمام الأجانب أو لبس الزينة ، أو الخضوع في القول ، وأمرها بغض البصر ، شاهد على أن المرأة تحضر المجامع ، وتكلم الرجال بقدر الحاجة ، ولو لم تكن كذلك لما كان لهذه النصوص معنى ، ومن غار على الحرمات فوق غيرة الشرع ، دخل في حيز الوسوسة ، وسوء الظن بالناس ، والتعقب على الشريعة . ) أقول : هذا هو المؤمل منك , والمظنون فيك , ونحن نرى مثلك أن من غار على الحرمات فوق غيرة الشرع ، دخل في حيز الوسوسة ، وسوء الظن بالناس ، والتعقب على الشريعة , كما نرى أن من برر لها , أو سوَّغ وجودها , أو قلل من خطرها , فهو إما مغفل أو مفتون , لكن هل هذا ينطبق على من أنكر اختلاطاً يجمع أكثر من منكر , كالتبرج , والبعد عن غض البصر , والحديث مع الرجال بما يجاوز قدر الحاجة ؟ , وكيف وقد أثبت الواقع أن الاختلاط في التعليم سبب للفساد الأخلاقي , وهذا ليس وسوسة , ولا تهويلاً , وقد ذكرتَ أن الفساد قد وقع في بعض دور العبادة التي مقامها وحقها التعظيم والاحترام , أفلا يكون غيرها مما هو أكثر أمكانا لوقوع الشر والفتنة ؟, بل قد صرَّح المؤسس – رحمه الله – منذ عقود , نقلاً عمَّن قابله من ساسة الغرب بذلك , فإذا كان هذا الفساد منهم في تلك العصور , فكيف الحال به في زمننا هذا ؟ . الوقفة السابعة : ما استشهدت به من النصوص , وما سقته من الأدلة , لايعارض من قال بعدم جواز الاختلاط , فالذي أوردته محمول على الحاجة , أو هو محتمل لايُقطع بالاستدلال به , وليس فيه معنى الاختلاط الذي نحن بصدد الحديث عنه , فمداواة الجرحى , أو الدخول إلى السوق , أو الشهادة , أو نحو ذلك من الحاجات التي لايمكن تسويغ الاختلاط بسببها , بل لو دعت الحاجة إلى ماهو أعظم من ذلك لجاز فعله شرعا , ولعلي أشتشهد لك بمثال قريب حيٍّ , في قصة غريقة حائل , وكيف أنه لم يتحدث أحد عن ملامسة الرجل للمرأة , أو إمساكه بها , بل كلُّ من شاهد ذلك المقطع أكبر فعل هؤلاء الأبطال , وأثنى عليهم , لأن الأمر أكبر من حديث عن مسألة كهذه , وهكذا منهج أهل العلم , وبهذا جاءت الشريعة الغراء , وكم سمعنا للعلماء الذين ينكرون الاختلاط , أنه إذا دعت الحاجة إلى تدخل الرجال للكشف على المرأة وعلاجها , فإنه والحالة هذه يجوز لها تمكينهم من ذلك وبما تدعو إليه الحاجة , لأن الضرورات تقدر بقدرها , ولهذا فالاستشهاد بما كان النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يعملنه , من مداواة الجرحى , أو نقل الموتى , لاحجة لمن استدل به , فهذه ضرورة وحاجة , فكيف إذا انضاف إليه وجود المحارم , والبعد عن دواعي الفتنة . وأما وعظ النساء وتذكيرهن , فليس فيه دليل على الاختلاط بهن , ولا أدري كيف يمكن الاستدلال به على واقع مغاير لهذه الصورة تماما , إلا أن يكون المراد حشد أكثر قدر من النصوص ولو سيقت في غير موضعها !! . ومثل ذلك ما وقع من التماري عند أم الفضل رضي الله عنها , حول صوم النبي صلى الله عليه وسلم في يوم عرفة , فهو لاحجة فيه , لأنه ليس صريحا في الاختلاط , والتماري قد يقع بين الناس وهم غير مختلطين . وكذلك ما وقع من خدمة المرأة لزوجها , وتقديم الطعام , فقد صرَّح العلماء أن ذلك جائز عند أمن الفتنة , مع لزوم الستر والحشمة , وهذا مما يتنافى مع واقع التعليم المختلط , فلا الفتنة فيه مأمونة , ولا الحشمة فيه كما يجب , ومغالطة الواقع , وتكذيب العين , من المكابرة التي لاتجوز , ولدينا من شواهد الحال مايندى له الجبين , فهاهي أحوال المستشفيات , التي أذنت بالاختلاط , ورأت أنه ضرورة , واحتجت بأن كثرة الإمساس تقلل الإحساس , أو أن شرف المهنة يمنع من التجاوز , قد أزكمت منكراتها الأنوف , ولولا أن المصلحة تقتضي ترك الحديث عن بعض مالافائدة من ذكره , لذكرت ما يندى له الجبين . وما كان يقع من نساء الأقدمين , لم يكن بالصورة التي عليها واقع التعليم المختلط , ولا هي بالصورة التي ينكرها المنكرون , بل الفرق بين الصورتين شاسع , والبون واسع , وإذا كانت عائشة رضي الله عنها تقول : لقد أحدث النساء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مالو رآهن لمنعهن من الخروج إلى المساجد , فكيف لو رأت عائشة رضي الله عنها ما عليه نساء زماننا هذا , وما يراد لهن , فالله المستعان . الوقفة الثامنة : قولك : ( أننا لا نجد فرقاً بين جمع عام مشمول بحسن المقصد وسمو الهدف ، يجتمع - على نبل غايته ورحابة فنائه - الرجال والنساء ، يحفهم السمت المنوه عنه ، وبين جمع آخر بين الرجال والنساء على مقصد تعبدي نجده تحديداً في طوافهم سوياً ، بالبيت العتيق ، وسعيهم بين الصفا والمروة ، ورميهم الجمار على صعيد واحد ، تتجلى في جمعهم المبارك آداب الإسلام الرفيعة ، وكل هذا مشمول بالمدلول اللغوي والمصطلح المحدث للاختلاط فهل نمنعه ؟ ، أو نغالي في التوجس ونقول : ينظم ذلك ، فساعة للرجال وساعة للنساء , لأن الزمن تغير ، وأصبح يفضي إلى شر ، وأن من الأشرار من رصد في مواطن العبادة وهو يتعاطى المنكر مستغلاً هذه الشعائر المختلطة ، إن أفق الإسلام أسمى من هذا كله ، وأكثر احتياطاً وتحفظاً وغيرة على محارم الله ، وقد أبقى مشهده على مر الزمان يقف أعظم شاهد على أن مصطلح الاختلاط دخيل على قاموس الشرع.) أقول : أين هذا الجمع المشمول بحسن المقصد وسمو الهدف الذي تتحدث عنه ؟ , حقيقة لست أدري هل أنت تتخيَّل ما تتحدَّث عنه , أم إنه شيء وقفت عليه ؟ . نحن نتحدث عن صالات مختلطة , ومجاميع مختلطة , يجلس الرجال فيها مع النساء , ويتباحثون , ويتبادلون الأحاديث الودية , وتلبس المرأة فيها ملابس متبرجة , ولايجوز الإنكار عليها , وربما أكلوا سويا , وجلسوا على مقعد واحد , أو طاولة واحدة . أسألك بالله يامعالي الشيخ : هل زرت موقع جامعة الملك عبدالله , ورأيت الصور المعروضة فيه , وهل تدين الله تعالى بجوازها ؟ . نحن لانشك لحظة في حسن نية خادم الحرمين – حفظه الله – ونرى أنه محب للخير , يحب نفع أمته , لكننا من دافع محبتنا له , وخوفنا عليه , ورغبتنا أن يتحقق حلمه بما ينفعه عند الله , وقفنا لنبين أن الاختلاط في الجامعة يسيء إلى هذا الحلم العظيم , ويسيء إلى سمعة هذا الرجل المحبوب , ويسيء إلى سمعة المملكة العربية السعودية , التي فاخرت ولازالت تفاخر باحترامها للمبادىء , وعدم تنازلها عن القيم . لقد رأيت بأم عيني صوراً لنساء يلبسن إلى الركبة , وقد تجملن بالمساحيق , وحسرن عن رؤوسهن , واختلطن بالرجال , فبالله عليك هل هذا من الحشمة التي تنشدها , أو تزعم وجودها ؟ . إنني ورب النعمة لا أرى إلا أن هذا من التدليس على ولي الأمر , وعدم النصح له , وعدم كشف الواقع كماهو , لأنني لايمكن أن أتصور أن خادم الحرمين – حفظه الله – الذي غضب من فعل الصحفيين , ومايخرجونه من صور النساء , يقبل أن يكون هذا حلمه , أو مما ينسب إليه , فلتكن ممن ينصحون له بصدق , وينقلون له الواقع كماهو , وإياك أن تقول مالاتعلم , أو تجادل عمَّا تجهل حقيقته . لولا خوفي من الله , من أن أقوم بنشر الصور المحرمة , لضمنت مقالي هذا صوراً لايقرها مسلم , ولايرضاها غيور , وكلها من موقع الجامعة نفسها , وليس مما ينسب إليها , أو يلفق عليها , فكيف أذنت لنفسك , وكيف أجزت لها , وأنت ترى أن من الخطأ محادثة المرأة الرجل بمايزيد عن الحاجة , وقد تعدى الأمر إلى ما يمكن اعتبار هذا عنده من اللمم عياذا بالله , أن تقارن بين هذه التجاوزات , ومايقع اضطراراً في دور العبادة أو غيرها . يجب عليك وأنت وزير العدل , وقد عملت في القضاء , ولايخفاك أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره , أن تقول ما وقفت على علمه , لاماتخيلته وظننته , فهذا موقع الجامعة متاح لك ولغيرك , ولديك من القدرة الوصول إليه بيسر وسهولة , فزره وتعرَّف على مافيه , ففيه من الصور مما أذن بنشره , سواء التقط في الجامعة أو خارجها , ما يجعل الحليم يحار , لأنه إذا كان هذا ما أذن به موقع الجامعة الرسمي , وهو يرى احتدام النقاش حولها , ومع هذا أجازها بكل ثقة , فما ظنك بما وراء الكواليس والأكمات , فإن رأيت أن ذلك الاختلاط الذي نشرت صوره , والتقطت هنا وهناك , مما جلست تنافح عنه , وتعسف النصوص لتجويزه , فمالتبرج المنهي عنه في نظرك , ومالزينة المحرم كشفها في رأيك ؟ . وإن رأيت أن صور الاختلاط المنشورة في الموقع مما يخالف ماذهبت لتبريره , فيلزمك والحالة هذه أن تبين ماتعتقده دينا , وأن تبلغ ولي الأمر بما رأيت , حتى تكون ناصحا ومحبا . الوقفة التاسعة : ما ذهبت إليه من أننا لو عممنا قاعدة الاختلاط لمنعنا من اجتماع الرجال والنساء في الأسواق والأماكن العامة، فلا ترى المرأة وحولها رجل، لدخول ذلك في معنى الاختلاط المحدث!!. هذا من التكلف , والأمور لاتؤخذ بمثل هذه الافتراضات , فأنت تعلم أن بين الأمرين فرق , فالاختلاط الذي تدفع إليه الحاجة , وهو مضبوط بضوابط الشرع , ليس كالاختلاط الذي لاحاجة له , أو مافيه مفسدة راجحة , وليت شعري هل بعد قولك هذا سنحكم على من أصدر هذا الأمر الملكي ذا الرقم 11651 في: 16/5/1403ه ونصه : ( إن السماح للمرأة بالعمل الذي يؤدي إلى اختلاطها بالرجال أمرٌ غير ممكن، سواءً كانت سعودية أو غير سعودية، لأن ذلك محرمٌ شرعاً؛ لما يفضي إليه من شرٍّ وفتنة وفوضى أخلاقية ) , بالإحداث والوسوسة ؟ , ولماذا لم نشاهد هذا الحماس في الحديث عن هذه القضية , وتبديع القائلين بها , واتهامهم بالبعد عن الفهم , ووصفهم بالتناقض إلا الآن !! . الوقفة العاشرة : رأيت في مقالك الخوف من الوقوع في المخالفة والبدعة , وهذا جميل , وهو يدفعني لمطالبة معاليكم , بأن يبدي رأيه في بعض المسائل التي نراها في زماننا هذا , وقد ذكر أهل العلم أنها من المحرمات , ومع هذا فلازالت قائمة يُعمل بها ومن ذلك مثلاً : 1 – حكم شراء السندات . 2 – حكم نشر صور النساء الكاشفات لماهو مجمع على تحريم كشفه كالشعر والذراع والساق . 3 – حكم التعاملات الربوية في البنوك . 4 - حكم بيع كتب الإلحاد والزندقة في معرض الكتاب . 5 - حكم السخرية من أحكام الشريعة في الصحف والمجلات والقنوات . وهناك قائمة أخرى من المحرمات , هي بانتظار ماتتفتق عنه غيرتكم الدينية , وخشيتكم من المخالفة والبدعة , فإن لم يكن لمعاليكم جواب عنها , فلماذا أخذتك الحماسة للحديث عن أمرٍ خالفت فيه من تصدر للفتيا وأنت لازلت تلتقم الثدي , وحشدت له الجهد والطاقة , وبالغت في مناقشته , حتى لكأنه لم تكن الجناية على الإسلام إلا به !! . والله لو أنك استنفدت الطاقة في تقرير حكم شرعي أهمل الناس العمل به , ونطقت فيه بما أمِنك الله عليه , وجعلك مكلَّفا ببيانه , لكان أليق بك أن تتجشَّم مسألة بهذه الحماسة , خالفت فيها من هو أوثق منك وأعلم , وطاش فيها سهمك , واتهمت مخالفك بما لايحسن من مثلك قوله عن مثلهم , فالله المستعان . هذه وقفات يسيرة سقتها على عجلة من أمري , ولعل الله أن ييسر لي فسحة من الوقت لمناقشة الموضوع بشيء من التفصيل . اللهم اهدِ ضال المسلمين , وعافِ مبتلاهم , وفكَّ أسراهم , وارحم موتاهم , واشفِ مريضهم , وأطعم جائعهم , واحمل حافيهم , واكسُ عاريهم , وانصرمجاهدهم , وردَّ غائبهم , وحقق أمانيهم . اللهم أصلح الراعي والرعية. اللهم أبرم لهذه الأمة أمرا رشدا , واحفظ عليها دينها , وحماة دينها , وورثة نبيها , واجعل قادتها قدوة للخير , مفاتيح للفضيلة , وارزقهم البطانة الناصحة الصالحة التي تذكرهم إن نسوا , وتعينهم إن تذكروا , واجعلهم آمرين بالمعروف فاعلين له , ناهين عن المنكر مجتنبين له , ياسميع الدعاء . هذا والله أعلى وأعلم , وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم . وكتبه [email protected]