سلمان بن فهد العودة - نقلا عن الاسلام اليوم نعم! إنه هتاف ال «أنا» التي جعلت من ذاتها مركزا للكون، ومستقرا للحقيقة؛ وأيقنت أن تصوراتها ومبادئها وحلولها ونظراتها وآراءها هي الحق المطلق، وأن معارضيها هم المعوق الجوهري للإصلاح والنجاح والاستقرار. فصارت تتمنى لهم الموت العاجل الزؤام، وربما تشاهده في الأحلام، رأى أحدهم عدوه يموت فقال له المعبر: طولة عمر. هذا المنطلق الذي يسوغ للمرء أن يتجاوز القيم النبيلة والمبادئ الشريفة في الخصومة، كيف لا! وهو الحق وما سواه الباطل؟ وهو الصلاح وما سواه الفساد والكساد؟! هو الذي يحمل المرء على الإطاحة بفضائل مخالفيه، وهيهات أن يكون لهم فضائل وهم خصومه وأعداؤه.. وهو الباعث على السعي الدؤوب في عرقلة مشاريعهم؛ لأنها مشاريع الخيانة والعدوان! وهو الدافع للاستعداء والتهويل والتحريض المعلن والمستور، المباشر وغير المباشر! هو يدعو إلى «القتل». فإذا لم يكن القتل ممكنا؛ فيلجأ صاحبه إلى «القتل المعنوي» بالمحاصرة والتشويه، وقطع الرزق وتعويق المحاولات، والاتهام وسوء الظن والوقيعة! هل هذا هو الإخلاص للمبدأ الذي تعلمناه؟ كلا؛ فإن الله الرحيم وسِع كل شيء رحمة وعلما، وسِع عباده كلهم برهم وفاجرهم رزقا وعافية وإمهالا، وفتح لهم في هذه الدار من أسباب النجاح والسعادة والتوفيق والسؤدد والمجد والغنى، وفق النواميس والسنن، ما يشترك فيه المؤمن والكافر. وحين دعا إبراهيم (وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر) قال الله: (ومن كفر ..) (البقرة: من الآية 126) قال ابن عباس: كان إبراهيم احتجرها على المؤمنين دون الناس، فأنزل الله (ومن كفر ) أيضا فأنا أرزقهم كما أرزق المؤمنين، أخلق خلقا لأرزقهم.. وحين استؤذن رسول الله بواسطة جبريل أن يطبق على أهل مكة الأخشبين؛ عدل عن ذلك إلى ما هو خير وأوصل، وقال: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا» كما في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها. إن وجود المعاندين والكفار والمنافقين ينطوي على حكم إلهية ومعان ربانية ومقاصد جليلة؛ حتى قال الحسن البصري رحمه الله: لولا المنافقون لاستوحشتم في الطرقات. وفيه معنى الابتلاء والدعوة والصبر والمنافع المتبادلة والأسرار العظيمة.. فلم يضيق صدرك وقلبك بمخالفيك؛ حتى تظن أن الحياة لا تطيب مع وجودهم، وتحصر أملك في أن تسمع خبرهم وقد ودعوا ورحلوا.. وتردد: تخفيف ورحمة! أو كما يقول الشاعر: إذا ما مات ذو علم وتقوى فقد ثلمت من الإسلام ثلمة وموت الحاكم العدل المولى بحكم الأرض منقصة ونقمة وموت فتى كثير الجود محل فإن بقاءه خصب ونعمة وموت الفارس الضرغامِ هدم فكم شهدت له بالنصر عزمة وموت العابد القوام ليلا يناجي ربه في كل ظلمة فحسبك خمسة يبكى عليهم وباقي الناس تخفيف ورحمة وباقي الخلق من همج رعاع وفي إيجادهم لله حكمة أو لعلك تنشد مع أبي القاسم الشابي قوله: أيها الشعب! ليتني كنت حطابا فأهوي على الجذوع بفأسي! ليتني كنت كالسيول، إذا سالت تهد القبور: رمسا برمس! ليت لي قوة العواصف، يا شعبي فألقي إليك ثورة نفسي! (ليتني كنت ساعة ملك الموت فأفني الثقال حتى يبيدوا) لو كان الأمر بيدنا لتفانينا، ولكن حكمة الله أغلب وفضل الله أوسع! لقد كان اليهود يتظاهرون بالتسليم وهم يقولون: السام عليك يا محمد! والسام هو الموت.. كما في حديث البخاري ومسلم «أن عائشة رضي الله عنها قالت دخل رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقالوا السام عليك، ففهمتها، فقلت: عليكم السام واللعنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مهلا يا عائشة، فإن الله يحب الرفق في الأمر كله» فقلت يا رسول الله! أولم تسمع ما قالوا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فقد قلت وعليكم» فنهاها النبي صلى الله عليه وسلم.. إنه لم يقل: (عليكم) وإنما قال: (وعليكم) إشارة إلى أن الموت قدر مشترك، وحق على رقاب العبيد كلهم، ولا يخص مسلما من كافر. اعتاد رجل أن يأتي باب أبي هريرة؛ فيؤذيه ويثقل عليه؛ فقيل لأبي هريرة: قد مات؛ فقال: ليس في الموت شماتة. وقد قرأت لبعض الخلفاء قوله: «السعادة أن تعيش حتى ترى مصارع أعدائك».. وهذا ضيق نفس واحتدام خصومة، وإلا فالعاقل يدري أن الأعداء الصرحاء جزء من الناموس، والدول العظيمة تصنع لها عدوا لتحشد طاقتها في مواجهته، فضلا عن أن معظم الخصوم ليسوا أعداء على الحقيقة، وإنما بينك وبينهم من مشتركات الدين والمبادئ والقيم والأخلاق أكثر وأعظم من مواطن الاختلاف التي ينفخ فيها الشيطان، وتكرسها النفوس المريضة، ويتشاغل بإثارتها الفارغون والبطالون.. أما مشتركات الدنيا ومصالحها فأمر وراء ذلك.. والحكيم يقدر أن يروض الوحوش ويسوس الأسود، ويوظف ما حوله ومن حوله بالصبر وحسن الظن وصفاء السريرة، واتساع البصيرة والعقل، وإطار ذلك كله: القول اللين والموعظة الحسنة، ومدافعة السيئة بالحسنة، وتجاوز المواقف الخاصة، والمجريات العابرة، والذكريات المؤلمة. أوربا التي عاشت حربين عالميتين، قتل في الأولى قرابة (15 مليون إنسان)، وقتل في الثانية حوالي (55 مليونا) وامتدت لسنوات، وأكلت الأخضر واليابس تسير نحو الوحدة في دستورها ومصالحها، وقد تجاوزت الحدود بين دولها، واندمجت في عمل وحدوي عظيم.. فلماذا نجتر معارك وهمية حول فروع ومواقف وتمحلات وظنون، أو مواجهات بين قبائل، أو احتكاكات بين مناطق، أو تفاوتا بين تيارات ومذاهب؛ لنجعل من الحبة قبة، ولنحكم العزلة والقطيعة، ولنجعل مشروعنا الذي أخلصنا له حياتنا، وضحينا في سبيله، وصرفنا جهدنا وعرقنا له؛ هو إقصاء الخصوم وتهميشهم وقتلهم معنويا، حيث لم يمكن إلا ذاك، وربما هم جعلوا مشروعهم قتلنا وإطاحتنا.. واتفقنا بالصدفة على أن نجعل شعارنا الموحد من مادتين: المادة الأولى: أنا أحارب إذا أنا موجود! المادة الثانية: لا يجتمع ولي الله وعدو الله. ومنحنا أنفسنا صك الولاية، وحرمنا منها من لا يتفق مع قناعاتنا واجتهاداتنا.. هبهم جهالا أو متأولين أو متلبسين بهوى خفي لم يدركوه، فربما وسعتهم رحمة الله. وفي مسند أحمد بسند صحيح عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمتى هذه أمة مرحومة ليس عليها عذاب في الآخرة». لا تسمح لقلبك أبدا أن يفرح بموت مسلم عابد لله، لمجرد خصومة بينك وبينه، فإن أبى قلبك إلا هذا فتخل عنه فإنه ليس قلبا، بل هو حجر من الحجارة، بل الحجارة ألين منه وأرق؛ فهي تبكي لموت المؤمن، كما قال تعالى: (فما بكت عليهم السماء والأرض) (الدخان: من الآية29). قال ابن عباس: إذا مات الإنسان بكى عليه مكانه من الأرض الذي كان يذكر الله فيه ويصلي فيه، وبكى عليه بابه الذي كان يصعد فيه عمله، وينزل منه رزقه. هذا الانتظار الطويل القاتل لموت فلان وفلان.. قد قتلك أنت قبلهم؛ فاستدرك ما بقي بإنجاز تتوب به من معرة استعجال القدر، والغفلة عن حكم الله وحكمته، وقراءة الحياة بصورتها الصحيحة الواسعة المرنة، واخرج من قوقعتك التي أسرت نفسك فيها إلى بحبوحة الرضا والإيمان، وضع نفسك موضعها بلا تعاظم ولا ازدراء وردد: (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم) (الحشر: من الآية10)