سيكون من الصعب الوصول إلى حصر دقيق لأساليب الإقصاء في الثقافة العربية الإسلامية أوحتى تحديد فترة طلوع أسلوب الإقصاء كمنهج سلطوي، لكنه كان بلا جدال العامل الأكثر تأثيراً في إنحطاط حضارتهم القديمة، ولا يزال يشكل أحد الموانع التي تقف ضد خروجهم من سرداب التخلف والجهالة الإنسانية. لا يمكن بأي حال تجاوز فصول الإقصاء التي حدثت خلال وبعد عصر الفتنة في صدر الإسلام، فقد كان أول إعلان للإقصاء في ذلك الزمن استخدام عقيدة الجبر لتبرير القبض على كرسي السلطة، ثم ما تلا ذلك من رفع المعارضين لأسلحة التكفير والتفسيق كمحاولة لتغيير الواقع، لكن ما حدث بسبب ذلك كان إذكاءً لحلقات لا تنتهي من الصراع حول السلطة، والتي توالت منذ صفين ومعركة النهروان، وعبر تاريخ الثورات ضد الأمويين، وإلى مرحلة العباسيين الأوائل، وكان أغلب إقصاءات تلك المراحل يعتمد على الحلول المسلحة وعلى أحكام شرعية تكفيرية للسلطة، ولم يتم استخدام الإقصاء العقدي والفكري تحت مظلة الابتداع في الدين إلا متأخراً.. وكان له أعظم الأثر، وأكثر قدرة على تمزيق الأمة وإلى تعميم ثقافة العداء للآخر، وكذلك كان الرعب التي هرب بسببه العلم والعقل إلى أوروبا. حاز الخليفة المأمون على الأسبقية في نقل العلم والتفكير العقلاني إلى مرحلته الذهبية في تاريخ المسلمين، وذلك عندما دفع المجتمع إلى الأمام بتأسيس دواويين الترجمة والتأليف من خلال وسائل التحفيز والتشجيع، لتحدث بسبب ذلك نقلة غير مسبوقة في تاريخ المسلمين ويصل تقدير العلم إلى أعلى مراتبه، لكن خلافاته السياسية مع فئات المجتمع المحسوبة على تيار أهل الحديث، والتي كان تقف ضد مشروعه العقلاني والسياسي، بسبب تحالفه الرمزي مع التيار العقلاني المعتزلي، بالإضافة إلى تعيينه لأحد أحفاد الإمام علي بن أبي طالب في ولاية العهد، دفعت فقهاء المجتمع السني إن صح التعبير في العراق للوقوف ضده، ولتأليب العامة ضد ممارساته. ما حدث من تناحر بين التيار العقلاني وتيار أهل الحديث كان له عميق الأثر في تأصيل أساليب جديدة في منهج الإقصاء، وظهر ذلك بوضوح عندما قرر المأمون أن يدخل مع أهل الحديث في أشد صراع عقدي في تاريخ المسلمين، إذ استخدمت في تلك الفترة الزمنية الذهبية أساليب جديدة على المسلمين، وفي فرض منهج إقصائي غير معهود، ويعتمد على أسلوب الامتحان الفكري من أجل النيل من التيار الآخر، وكان ذلك في قضية خلق القرآن الشهيرة، ليقود حملة منظمة ضد الآخر، وليسنّ بدء تاريخ الإقصاء المنظم في المجتمعات الإسلامية وبأساليب متطورة، ولتكون العامل الأهم في صراع السلطة، وفي في إدارة الخلافات الفئوية والعقدية والطائفية والمذهبية في القرون التالية، وأيضاً في انحطاط الحضارة الإسلامية. ولعل أكثر المراحل سخونة بعد ذلك كانت مرحلة فتنة الحنابلة، والتي ظهرت بعد انتصار أحمد ابن حنبل رحمه الله ضد المأمون والمعتصم، وكان ذلك العصر يتميز بخروجهم جماعات في أسواق بغداد وملاحقتهم لمظاهر الفساد في المدينة، وإلى تغيير ما سمّوه بالمنكر بأيديهم مباشرة، أي باعتماد العنف في التغيير، فكانوا يخرجون إلى الأسواق فيصادرون الكتب التي تخالف مذهبهم ويحرقونها، ويعبثون بالأواني الملونة والتي تحمل رسومات لحيوانات أو طيور أو أشجار، ويمزّقون الملابس المزخرفة والملونة بالذهب وبأبيات الشعر الغزلي ويقتحمون الأماكن شاهرين سيوفهم وحاملين الهراوات والأسلحة، كما كانوا يعمدون إلى الإضرار بالنساء اللواتي يرون في خروجهم فتنة على الرجال، ويعتدون على الشباب المائل إلى الطرب والغناء ومغازلة الحسناوات من الجواري، وقد وصل بهم الحماس العقائدي إلى حدّ أن ينبشوا قبور الموتى من معارضيهم ومخالفيهم في الرأي. ما أحدثه الحنابلة من فتنة كان ردة فعل ضد اضطهاد المأمون والمعتصم بهم، لكنها عصفت بالغث والسمين في بغداد، وكان لهم أثراً سلبياً كبيراً على انحسار الانفتاح العقلاني في تلك المرحلة، وكانت محاولاتهم تدخل في مهمة إرجاع الإسلام إلى سابق عهده، وهو الشعار الذي دائماً ما يرفعونه ضد المبتدعة في الدين من الفرق الأخرى، ولكي يتحقق مبتغاهم عملوا على إجبار الناس على اتباع عقيدة أهل السنة والجماعة، وذلك من خلال الصراع الفكري والبدني مع أصحاب العقائد الأخرى، ومضايقتهم والعمل بشتى السبل من أجل إسكاتهم أورحيلهم من العراق، كذلك حمل أصحاب العقائد الأخرى أيضاً كماً هائلاً من الإقصاء المضاد ضد الآخرين، وهو ما نتج عنه ذلك الانحطاط التي قذف بالمسلمين إلى الدرك الأسفل في درجات الحضارة الإنسانية. ما أود الوصول إليه أن ملة الإقصاء واحدة، ودائماً ما تؤدي بمجتمعاتها إلى الأسوأ مهما كان نبل القيم التي تدعو إليها، ولذلك أدركت الحضارة الإنسانية الحديثة مبكراً أن الإقصاء والإقصاء المضاد لا يتماشيان مع منحنى صعود الحضارة، وأن حق التعبير أساس في كل بناء حضاري حديث، ومن رأى غير ذلك فعليه الخروج من مركب الحضارة الإنسانية، وأن ينتظر خروج المهدي في مستقبل الأزمنة القادمة.