كان نجاحها، لو قدر لها ذلك، يمكن أن يكون مدوياً. لذلك، وبالقدر نفسه جاء فشلها كبيراً بحجم العملية نفسها. كانت تلك محاولة الاغتيال التي تعرض لها مساعد وزير الداخلية السعودي للشؤون الأمنية، الأمير محمد بن نايف، الخميس الماضي. كانت العملية تشبه اللعبة التي تتحرك نحو هدفها من دون معرفة أو إرادة أطرافها. رسخ الأمير تقليد استقبال العائدين من الفكر الإرهابي بأمل التقرب منهم، وكسب ثقتهم تشجيعاً لهم على التخلي عن الصدام مع الدولة. من جانبه اعتبر الطرف الآخر أن هذا التقليد ثغرة يمكن من خلالها تصفية الأمير وإخراجه من اللعبة. ويزداد المشهد غرابة عندما ذهب الأمير بعيداً في تقليده، وطلب، كما قال، عدم تفتيش العائد عبدالله عسيري الذي كان في طريقه إليه. في الدقائق الأولى من اللقاء حصل الانفجار. ذهب الإرهابي إلى حتفه، ونجا الأمير باعجوبة لا يمكن تفسيرها إلا بمنطق القدر الذي كان يحرك اللعبة. هذه هي الزاوية الوحيدة التي يمكن النظر منها إلى ما حدث. وهي زاوية تطرح أكثر من سؤال عن طريقة التعامل مع ظاهرة خطيرة مثل الإرهاب. وخطورة هذه الظاهرة لا تقتصر على الجانب الأمني، بل تتجاوزه إلى الجانب الفكري والسياسي، لتصل إلى الدولة نفسها، كمفهوم، ومؤسسة، وتاريخ. من هنا تنبغي العودة إلى القضايا المتداخلة التي تفرضها محاولة الاغتيال: الدافع السياسي الذي يختفي وراء المحاولة، وأسلوب التعامل الذي اتبعته وزارة الداخلية السعودية في التعامل مع المجموعات الإرهابية حتى الآن. ثم هناك ما انطوت عليه المحاولة من جديد: وهما استهداف عضو بارز من العائلة الحاكمة، وزرع العبوة الناسفة داخل جسم الإرهابي. وأخيراً علاقة الإرهاب بالصراعات الإقليمية والدولية، وبالتالي بالدول وأجهزة الاستخبارات. ربما بدا للبعض بأن الدافع السياسي لمحاولة الاغتيال أمر مستجد لأن الهدف هذه المرة عضو بارز في الأسرة الحاكمة، وهو ما لم يحدث من قبل. ولا شك أن الرابط هنا منطقي. لكن هناك عاملا آخر دخل على العلاقة، وهو أن محمد بن نايف ليس فقط عضواً بارزاً في الأسرة، وإنما هو إلى جانب ذلك المسؤول الذي يمسك بالملف الأمني، وتحديداً ملف الإرهاب لما يقرب من عقد من الزمن. وهو بهذه الصفة العدو الأول للمجموعات الإرهابية. وقد واجهت هذه المجموعات على يد الفريق الأمني الذي يقوده ضربات وانتكاسات كبيرة ومتتالية، ولم تتمكن حتى الآن من تحقيق أي نجاح يمكن البناء عليه. بمثل هذه الإنجازات أصبح مساعد وزير الداخلية للشؤون الأمنية عقبة كأداء أمام الإرهاب. ومن الطبيعي والمتوقع أن يكون الهدف الذي سوف تعمل تلك المجموعات على تصفيته وإزالته من طريقها. الأرجح أن المستهدف في هذه الحالة ليس فقط شخص الأمير، بل رجل الأمن الثاني. ومن ثم لو تصادف أن الذي يحتل هذا المنصب رجل من خارج الأسرة الحاكمة، وبمثل تلك المواصفات والإنجازات، لتم استهدافه بالطريقة نفسها، وللغرض ذاته. لكن أن يجمع محمد بن نايف في شخصه بين عضوية الأسرة الحاكمة، وقيادة المعركة الإرهابية بنجاح أمني لافت، يعني أنه يمثل صيداً أكثر من ثمين بالنسبة للجماعات الإرهابية. ماذا يعني كل ذلك؟ شيء واحد، وهو أن الهدف السياسي للإرهاب لم يتغير منذ عملية العليا في الرياض عام 1995. كان هذا الهدف ولا يزال زعزعة الأمن تحت أقدام النظام السياسي، وزرع الرعب في المجتمع لإضعاف الدولة. المشكلة في "المناصحة" أنها تحاول استمالة الجماعات من داخل خطابها الديني، بدلا من نفيه، ونفي شرعيته، واستبداله بخطاب ديني أكثر استنارة وانفتاحاً! هل يمكن القول بأن الجماعات الإرهابية تمارس نشاطها التخريبي من أجل الاستيلاء على الحكم؟ لا يمكن أن تكون هذه الجماعات إرهابية، وتفكر في الوقت نفسه على هذا الأساس. هذه جماعات تخريبية، مضللة أيديولوجياً، ولا تملك فكراً سياسياً يسمح لها بالتفكير في هذا الاتجاه. إنها تمارس إرهاباً عبثياً من منطلقات تجمع التعصب إلى رؤى دينية تدميرية. هي لا تملك برنامجاً سياسياً، ولم يسبق لها أن تعاطت أو اهتمت بالمسألة السياسية، أو بمسألة التخطيط خارج إطار العنف والقتل والتدمير. خطورة هذه الجماعات أنها تزرع الفتن، وتعمل على نشر الفوضى الأمنية. إذن ألا تمارس هذه الجماعات الإرهاب من أجل الإرهاب وحسب؟ ألا تعمل من وراء ذلك على تحقيق هدف سياسي؟ الإشكالية أنه ليس في تاريخ هذه الجماعات، ولا في تركيبتها التنظيمية ما يقنع أنها ترتقي في تفكيرها إلى هذا المستوى، أو أنها مؤهلة لتولي الحكم، خاصة في بلد مثل السعودية. بل إنه ليس في خطابها ما يشير إلى شيء من ذلك. لعل قياداتها العليا تحلم بتولي الحكم في هذا البلد أو ذاك. وقد تحقق لها هذا في أفغانستان، وفي الصومال. لكن لاحظ أن هذا لم يحصل إلا بمساعدة دولة أخرى، وفي إطار فوضى سياسية، وعندما حصل فاقم من حالة هذه الفوضى. ما يشير إلى أن البيئة المواتية لمثل هذه الجماعات هي الدول الفاشلة. وهنا تتبدى خطورة الخطاب الديني الذي تعمل هذه الجماعات على نشره، لأنه خطاب يؤدي أولا إلى تقويض منطق الدولة، وإرباكها، ومن ثم فشلها. ومن هذه الزاوية يبرز الخطأ القاتل في الأسلوب الذي تستخدمه الحكومة السعودية في تعاملها مع الجماعات الإرهابية، والفكر الذي تمثله. فالحكومة إلى جانب أنها على المستوى الأمني تستخدم نهج المواجهة الصارمة، إلا أنها على المستوى الفكري والسياسي تستخدم أسلوباً يتسم بالملاينة، والمهادنة، بل ربما المداهنة في محاولة لاستمالة أعضاء هذه الجماعات والمتعاطفين معها فكرياً، وكسبهم إلى جانبها. يحمل هذا الأسلوب اسم "المناصحة". لعل المشكلة ليست في فكرة المناصحة بحد ذاتها، بل في طريقة تطبيقها، والمفاهيم التي تستند إليها، والإجراءات المصاحبة لذلك التطبيق. لا تختلف المفاهيم المستخدمة في المناصحة كثيراً عن مفاهيم الخطاب الذي تستند إليه الجماعات الإرهابية. وهذا يحتاج إلى مراجعة سريعة وجادة. من هذه الزاوية، لم تكن محاولة الاغتيال اختراقاً أمنياً حقيقياً، وإنما تعبير عن خلل واضح في الاستراتيجية الأمنية لمواجهة الإرهاب. الإشكالية الثانية في أسلوب المناصحة أنه يحاول استمالة هذه الجماعات من داخل خطابها الديني، بدلا من نفي هذا الخطاب، ونفي شرعيته، واستبداله بخطاب ديني أكثر استنارة، وأكثر انفتاحاً على جميع شرائح واتجاهات المجتمع. أسلوب المناصحة، كما هو عليه الآن، يبدو كما لو أنه يعطي ميزة للفكر المتشدد، وللجماعة التي تتبناه. نأتي إلى قضية علاقة الإرهاب بالصراعات الإقليمية والدولية، وبالتالي علاقات الجماعات الإرهابية بأجهزة الاستخبارات التي تتولى الجانب الخفي لتلك الصراعات. تمثل الجماعات الإرهابية بفكرها الأيديولوجي، ورؤاها الدينية الغيبية، أدوات قابلة للاستخدام. وقد حصل ذلك، وهو يحصل الآن. وهناك اعترافات كثيرة تؤكد هذا الجانب. في مارس الماضي، مثلا، ذكر القيادي في تنظيم "القاعدة في جزيرة العرب"، محمد العوفي، والذي استعادته السعودية من اليمن، بأن استخبارات دولتين تقود وتوجه تنظيم "القاعدة" في اليمن، وأنها تقدم الدعم المالي له. لم يفصح العوفي عن اسم الدولتين، أو أنه أفصح، لكن لاعتبارات سياسية وأمنية رؤي أنه لابد من إخفائهما في هذه الظروف. هناك أمثلة لدول استخدمت جماعات دينية في دول أخرى من أجل أهدافها السياسية. من ذلك استخدام إيران ل "حزب الله" في لبنان، ول "المجلس الإسلامي الأعلى" في العراق. هذان مثالان سمحت الظروف السياسية بالتعامل معهما علناً. لكن الظروف السياسية نفسها لا تسمح بالإعلان عن حالات أخرى. وهذه مسألة تستحق الانتباه إلى أهمية التعاطي معها بدرجة أكبر من الانفتاح. إلى أي حد يساهم أسلوب المناصحة في تعميق هذه الإشكالية في الحالة السعودية؟ ترسيخ الخطاب الديني المتشدد، وهو خطاب عابر لحدود الدول، هو أحد العوامل التي تجعل من المتعاطفين مع هذا الخطاب من بين الشباب السعودي عرضة للاستخدام من قبل الدول الأخرى في لعبة الصراعات الإقليمية والمذهبية. ومما له علاقة بذلك أن محاولة اغتيال مساعد وزير الداخلية السعودي تتزامن مع تصاعد درجة الاحتقان السياسي في المنطقة: عودة التفجيرات إلى العراق، وانفجار الحرب السادسة بين الحوثيين والحكومة اليمنية، وتأزم تشكيل الحكومة في لبنان، وأخيراً انفجار الخلاف بين العراق وسوريا حول موضوع الإرهاب تحديداً. هل المحاولة في هذا الإطار، وباستهدافها، ولأول مرة، عضواً من الأسرة الحاكمة، تمثل بداية لموجة جديدة من العمليات الإرهابية؟