مشاري الذايدي * الشرق الأوسط اللندنية في الكلمة المسجلة بصوت (إبراهيم الربيش) وهو مطلوب قاعدي سعودي، التي ألقاها بعد محاولة اغتيال الأمير محمد بن نايف الفاشلة، تحدث الربيش، الذي يعتقد وجوده في اليمن، عن هذه العملية مادحا لها ومقدما دوافع الإقدام على هذه المحاولة، مهاجما مساعد وزير الداخلية ومايسترو الحرب الأمنية على الإرهاب، محمد بن نايف، المهم في كلامه، والجديد أيضا، هو إشارته إلى من استهجن هذه العملية من الخطباء ورجال الدين السعوديين، والصحافيين أيضا، فقد اتهمهم بالكذب وتشويه «الجهاد»، ثم ختم بأن من استطاع الوصول إلى قائد محاربة الإرهاب، أي الأمير، لقادر على الوصول إلى هؤلاء المنتقدين ل«القاعدة»، فليأخذوا حذرهم، في تهديد صريح وإخافة لمن تسول له نفسه الاستمرار في نقدهم. لا حاجة إلى الحديث عن صورة الصحافيين والكتاب المشيطنة لدى جل الأصوليين، فهم دائما إما عملاء للغرب أو للأنظمة الحاكمة، وليسوا أصحاب رأي أو أنصار حرية، بل أدوات تحارب الفضيلة وأصحاب الحق، الذين هم طبعا التيارات الأصولية. لا جديد، إذن، ولا غريب في هجوم أعضاء «القاعدة» على أهل الإعلام والثقافة، المثير هو الإشارة إلى رجال الدين والمشايخ والوعاظ، ووضعهم في خانة الاستهداف. دوما إذا وصلت جماعات العنف الديني إلى المرحلة التي تصفي فيها أبناء الاتجاه الديني المخالفين نكون دخلنا في مرحلة خطيرة من التدمير الذاتي العنيف، سعيا للتفرد بتمثيل الصوت الديني واحتكاره، وبما أن أبناء الحقول والمجالات الفكرية الأخرى لا يزاحمون «القاعدة» وكل الأصوليات الأخرى على مقعد الدين، لأنهم يعتقدون بأن الدين لله وليس للناس، لم يبق إذن إلا إزاحة من يضيقون المقعد على أصحابه، ويشوشون على الخطاب والصوت الواحد. هذا لا يعني أن الأصوات المعارضة لفكر الإرهاب في السعودية هي أصوات مقنعة كلها، صحيح أن بعضها صاخب، ولكن الصخب شيء والإقناع شيء آخر، على العكس، كلما زاد الصخب كشف ذلك عن ارتباك وخلل منهجي يغطى عليه بغبار الضجيج. فنحن لم نر بعد مقاربات نقدية حقيقية ل«بنية» خطاب الإرهاب، وليس مستواه السطحي الظاهر، بل رأينا انقضاضا ومحاربة لكل من يحاول تجاوز الحديث الإعلامي. ومع هذه الملاحظة على الخلل المنهجي الكبير في خطاب نقد الإرهاب الديني، فإن ذلك لا يمنع من تسجيل أن إدانات المشايخ للعنف الديني أحدثت أثرا ضارا بالدعاية الإرهابية وشوّشت عليها، مما يبرر الضيق بأحاديث وخطب الشيوخ. هنا نتذكر فكرة أساسية ميزت سلوك جماعات العنف الديني وهي التصفيات الداخلية قبل الانطلاق إلى الخارج، أو مع عمليات الخارج بالتزامن، والخارج هنا نقصد به خارج الحقل الأصولي الداخلي، الذي يحدث عادة هو أن جماعات العنف الديني تقوم بعملياتها المثيرة ضد الدولة أو تغتال شخصيات عامة، فيهب المثقفون والمفكرون لمحاربة ونقد الجماعة ومحاربة فكرها، ويهب المشايخ لنفي حجج الجماعات الدينية وتبرئة الدين منها، والرد الفقهي على هذه الحجج، كما صنع الشيخ السوري محمد سعيد رمضان البوطي في كتابه عن مفهوم الجهاد، أو الشيخ يوسف القرضاوي أو المشايخ في السعودية الذين ألفوا في فقه السمع والطاعة لولاة الأمر والتحذير من الفتنة وتكريس مبدأ الجماعة، خصوصا أثناء حركة الإسلاميين عقب غزو صدام للكويت، ونشاط التيارات الإسلامية السعودية حينها في تحشيد المجتمع خلف طرحها الثوري الأصولي، وكان زعماء الحقل الديني أمثال المفتي الراحل عبد العزيز بن باز أو القطب الفقهي الشهير، الراحل محمد بن عثيمين، لهم القدح المعلى في هذه الجهود. ويذكر من كتب في سيرة القائد الأول ل«القاعدة» يوسف العييري كيف كان يبكي ويتألم من عدم تجاوب «العلماء» مع أفكاره حول إنشاء حركة جهادية جديدة، لكن هذا البكاء الذي يعني العتب والمرارة من «تخاذل» المشايخ حسب تعبيرهم، تحول إلى عداء ومحاربة في المراحل القاعدية اللاحقة عقب مقتل العييري، والآن، مع تسجيل إبراهيم الربيش، تصل المرارة والعداء إلى حد التهديد بالقتل. لنعد قليلا إلى الوراء ونتذكر كيف كان جهيمان، قائد حركة التمرد والاعتصام بالحرم المكي 1979 يدين علماء الدين السعوديين في رسائله ويسخر منهم، وبعده في التسعينات منظر السلفية الجهادية الحديث الأردني أبو محمد المقدسي، الذي لم يقصر، شعرا ونثرا، في تلطيخ مشايخ الدين المعارضين له، والتركيز على علماء السعودية، وكذلك رسائل منظري «القاعدة» السعوديين في مجلة «صوت الجهاد». هذا السلوك جرى في السعودية، ولكنه جرى أيضا في بلدان أخرى، نسجل هنا مقتل الشيخ الذهبي على يد جماعة شكري مصطفى في مصر، وأحيانا تصل التصفيات إلى رجالات الحركة نفسها، إذا ما كانوا في وارد التصحيح أو التخفيف من غلو جماعات العنف الديني، أو إجراء مراجعة ما، كما جرى مع الشيخ محمد السعيد ورفيقه عبد الرزاق رجام 1994 في الجزائر، حيث تم قتلهما على يد الجماعة الإسلامية بسبب كونهما من تيار «الجزأرة». إن أخطر شخص أو جماعة على أصحاب الطرح الأصولي هم المشابهين لهم في اللهجة والمفردات، أي الذين يزاحمونهم ذات المقعد، لذلك يجب تخويفهم أو إزاحتهم بسرعة، وهذا الأمر ليس خاصا بجماعات «العنف» الديني، بل هو سلوك تتصف به كل الجماعات والتيارات الأصولية من أقصاها إلى أقصاها، حتى التي يبدو في الظاهر أنها ليست مع خيار العنف، ولعل من أكثر الأمثلة إثارة في هذا الصدد، هي علاقة الشيخ حسن البنا بالإمام يحيى حميد الدين، المعروف أن الإمام يحيى كان يمثل نظام حكم إسلامي عبر الصيغة الزيدية، وهي من أكثر الصيغ التاريخية تشددا في مسألة العدل، ومع ذلك لم يكن الشيخ البنا راضيا عن هذا النهج، بحكم أن الإخوان هم من يمثل الإسلام الحقيقي، فحرض على الثورة، وأبعد من ذلك يذكر البعض أن البنا شخصيا كان خلف اغتيال الإمام يحيى! فحينما شعر ثوار حركة 1948 «أن الإمام يحيى في طريقه لاكتشاف شخصياتهم، وبالتالي سيضرب ضربته ضدهم، قرروا اغتياله، وجاء وقت التنفيذ، فخرجت سيارة من سيارات شركة الفضيل الورتلانى التي أنشأها في اليمن، عليها خمسة أشخاص مسلحون، واعترضت موكب الإمام يحيى في ضواحي صنعاء، فانطلقت رصاصات من مدفع رشاش استقر خمسون منها في جسد الإمام، فمات في الحال، وقتل معه رئيس وزراؤه، القاضي العمري، وخادمه، وقتل ولداه، عندما أرادا مقاومة الثوار المتجهين إلى القصر الملكي، واعتقل ثلاثة من أبناء الإمام، وهم القاسم وعلي وإسماعيل في 17 فبراير 1948، وفى الحال تم إبلاغ البنا في القاهرة بما جرى ونشرت صحيفة (الإخوان) الخبر» والورتلاني هو المبعوث الشخصي من قبل حسن البنا لتدبير ثورة اليمن. وأعلن الإمام الجديد عبد الله بن الوزير، الذي لم يجلس على كرسي الإمامة الجديد إلا قليلا، في حديث لصحيفة الإخوان المسلمين، أنه في غاية الشوق لرؤية المرشد العام حسن البنا، ويود أن يراه رؤية العين، واستعد البنا فعلا للسفر، ولكن الحكومة المصرية نبهت على شركة مصر للطيران بمنع سفره. (يراجع الملف الذي أعده د. حمادة حسني لصحيفة «اليوم السابع» المصرية 28 أكتوبر 2008). حينما نتحدث عن خطورة المزاحمين على ذات المقعد الديني، فإننا نشير إلى سلوك حاكم ومكرر للجماعات الأصولية الثورية التي تريد احتكار المشهد والصوت الديني، حدث هذا لدى الأصوليات السنية والشيعية أيضا، كما نعرف من قصة الخميني مع آية الله شريعة مداري، ولاحقا مع آية الله منتظري، حيث أقصاهم. كلام «القاعدة» من اليمن وتهديدها لمن ينتقدها من رجال الدين السعوديين، هو استمرار لهذا النهج المعروف لدى «كل» الأصوليات الثورية، وللكاتب السعودي عبدالله بن بجاد تعبير جيد لهذا المعنى هو «الخطورة بالقرب». قد يقول البعض: إذا كان الأمر كذلك، فلماذا لا يمنع انتقاد رجال الدين الذين يتصدون لجماعات العنف الديني، تقوية لموقفهم وحماية لهم في موقفهم؟! وهو كلام يبدو وجيها للوهلة الأولى، لكن بقليل من التبصر ندرك، من ناحية عملية، أن الجماعات الثورية الدينية لا يهمها تعرض أو عدم تعرض خصومها من المشايخ لنقد «أجنبي» فمعركتهم معهم مختلفة وذات سياق خاص. ومن ناحية «مبدئية» فإن حجب النقد عن طرف وشخص وجهة ما بحجة قداسة المهمة التي يقوم بها يعتبر جناية وتخريبا واضحا لوظيفة العقل النقدية، وأخيرا من ناحية شمولية فإن البداية النقدية من «بنية» الخطاب الأصولي الحاكم للجميع، خير وأجدى من الانشغال بفروع الأشياء. تتشابه السلوكيات العامة لدينا بشكل مثير ومدهش، وكأننا نشاهد مسرحية خالدة التكرار، لكن بلا متعة ولا غنيمة عقلية أو وجدانية.