بدر العامر - مجموعة عبدالعزيز قاسم البريدية الحمد لله على سلامة الأمير محمد مرة أخرى .. ولله الحمد والمنة أن نجاه . تثار قضية " لجان المناصحة " التي حمّلت دور مناقشة الموقوفين ومناصحتهم ، ومحاولة استلال الأفكار الغالية التي أوقعتهم في الأسر وفي الدخول في هذه التيارات الخطيرة تثار عند كل قضية أمنية تحل بالبلاد ، وينبري عدد من كتّاب الصحافة والمفكرين وكتاب المنتديات للحديث حول " جدوى " هذه اللجان ، وهل آتت أكلها المرجوة منها ، وهل لها ضرورة ، وهل بإمكانها أن تحلحل هذه الأفكار وتؤثر في الموقوفين ، وهل القائمون على هذه اللجان مؤهلون للقيام بهذه المهمة الشاقة والحساسة التي تحتاج إلى مواصفات خاصة ، وهل هناك فرق بين أفكار الناصح والمنصوح ، وتختلف توجهات الناقدين والمقيمين والناقمين على هذه اللجان حسب توجهاتهم ومنطلقاتهم الفكرية ، وخاصة من قبل الكتاب الليبراليون الذين يرون في كل حدث فرصة للانقضاض على هذه اللجان وشرشحتها مبدين عدم فائدتها وجدواها في ظل تنامي خطر الغلو والإرهاب ، ولكنهم للأسف لا يطرحون بديلا معقولا ومقنعا عن هذه اللجان ، فمنهم من يرى أن الحل يكمن في فتح مجالات الحريات والانطلاق نحو التحديث - بفكر ليبرالي حر - ، ثم يأتي بعض متطرفيهم ليعلن أن " السيف الأملح " هو الحل لهذه الفئة ويتحدث بعقلية استئصالية خطيرة ، وخاصة حين يوسع إطار الاتهام ليدخل في مشكلة " الإرهاب " جموعا من العلماء والدعاة والشباب المستقيم ، ومحصلة الأمر حربا لا هوادة فيها على كل مظهر من مظاهر الدعوة والعلم والإصلاح الشرعي بحجة أن ( سعيد أخو مبارك ) كما يقولون .. الحديث حول " لجان المناصحة " له طابعه الليبرالي الذي يرى في " التيار الديني " في السعودية كتلة واحدة غير قابلة للتفكيك ، وأن المشكلة ليست في " غلو " في حمل فكرة إرهابية ، بل هو في " النص المؤسس " للتفكير ، وهذا وإن كان لا يعلن صراحة - إلا قليلا - بالأسماء الصريحة ، لكنه سمة بارزة لمن يكتب بالعقلية الليبرالية في منتديات النت ، فكانت " القطيعة " مع الشريعة هي الطريقة المثلى عند هؤلاء للقضاء على فكرة " الإرهاب " ، وهذا يعني الانفتاح على فكرة " العلمانية الشمولية " التي تقصي ( الدين ) عن شؤون الحياة ،والفصل بين المكونات الأساسية للحكم ، ونتيجة هذا كله القضاء على " الهوية " الوطنية التي قامت في الأساس على أن " الشرع " أساس الدستور ، وهذا الطرح لا شك يعتبر انقلاب كبير على الواقع ربما لا يقل خطورة عن بعض أفكار " الإرهابيين " ، لأن الفكرة تبدأ في بدايتها من الجانب النظري ، لكنها قابلة جدا - إذا سمحت الظروف - لأن تكون برنامج عمل وثورة . الموقف من لجان المناصحة عند هؤلاء ينطلق من الآتي : أولا : أن لا فرق بين الناصح والمنصوح ، فكلا الفريقين قد نشأ في ظل التيار الديني الذي يؤسس لفكرة العنف والغلو ، والفرق بين الاثنين أن المنصوح صريح والناصح يتقي ، والخلاف فيما بينهم هو خلاف في العمل وعدم العمل . الثاني : أن لا جدوى من " المناصحة " باعتبار تشبع هؤلاء بهذه الأفكار التي لا يمكن تركها ، وإن أبدوا تركها فإن ذلك تحيز وتحفز لعمل جديد ، ويضربون لذلك بعدد من الحوادث التي عاد فيها بعض المفرج عنهم إلى صفوف الإرهابيين والقتال والتفجير . الثالث : إتهام بعض المناصحين بحمل أفكار متطرفة ومتشنجة ، وله مواقف شديدة من بعض التيارات مثل التيار الليبرالي ، فكيف يعالج الغلو بالغلو ، وكيف يعالج التطرف بالتطرف ، ويرون هذا مؤشر مبكر على " فشل " هذه العملية التي تؤدي إلى تسويغ الفكر وتبسيطه أمام الشباب ، وخاصة حين يتحدث البعض عن " الحفاوة " التي يواجهها بعض السجناء والاحترام والتقدير الذي هو بعكس ما ينبغي . والحقيقة أن مناقشة هذه الأفكار والمنطلقات التي ينطلق منها هؤلاء ليست بالأمر اليسير والسهل ، ذلك أن الخلاف حول هؤلاء في الموقف من قضية " الإرهاب " ليس من الخلاف الفرعي البسيط ، بل هو خلاف أصلي ومبدئي ، لأن حشر " التيار الديني " في تهمة الإرهاب سواء من طريق مباشر أو غير مباشر يقطع الصلة في حوار هذه القضية حتى يخيل لك أن بعض هذه الدعوات تريد أن تحيل السعودية إلى كنتونات كبيرة لسجن أهلها بحجة " الصحوية " مرة ، أو " الغلو " مرة أخرى ، أو الإرهاب في مرات ، فالمساجد ودور التحفيظ ، والمراكز الصيفية ، ومناهج التعليم ، والهيئات ، وهيئة كبار العلماء والدعاة والخطاب الديني لا فرق بينها وبين شاب يفجر نفسه على أعتاب بيت الأمير محمد ، والنتيجة عند هؤلاء هي نفس فكرة بعض مفكري الغرب الذين يرون في " الردايكالية الإسلامية " الخطر الحقيقي التي تتجاوز خطر المجموعات المقاتلة التي يمكن القضاء عليها بالسلاح ، بينما يصعب القضاء على " الفكرة الإسلامية " إلا من خلال حرب شمولية تعمل على عدة جبهات متوازية ومتعاونة . إن هؤلاء يدركون جيدا أنهم لا يستطيعون أن يقوموا بنفس الدور الذي تقوم به هذه " اللجان " ، لأنه لا يمكن بحال من الأحوال أن ينهض الخطاب الليبرالي في معالجة فكرة " الغلو " باعتبار أن الفكرة في أساسها فكرة " دينية " ، وأن نقضها لا بد أن يكون من الدين نفسه ، واستعارة هؤلاء للخطاب الديني في محاجة الأفكار يعني بالضرورة الاعتراف به كمحرك اجتماعي وثقافي وسياسي ، وهذا أمر لا يمكن قبوله في أي حال من الأحوال عند هؤلاء . ثم إن " الخطاب الليبرالي " لا يمكن أن يكون منطلقا لمناصحة المتأثرين بالأفكار الغالية والمناهج التكفيرية باعتبار الفصام الحاد بين الفكرين من حيث المنطلق والمصب ، وهذا يجعل الليبراليين يدركون أنهم لا ناقة لهم في هذا الأمر ولا جمل ، بل لو سلم لهم الأمر لفروا منه الفرار من الأسد للقناعة الداخلية بأن الطريق أمامهم مسدود ، ولذلك يتوجه الخطاب عندهم إلى " التحريض " على الأبرياء ، وتوسيع إطار الاتهام ، والتركيز على الفكر المكون للجماعات الغالية بمنهجية انتقائية واختزالية ظاهرة ، وليت هذه القراءات قراءات محايدة وموضوعية بعيدة عن التشنج والتحيز المعرفي ، بل هي قراءات متحيزة ومغرقة في التحفز إلى العدائية التي لا تقبل أنصاف الحلول . إن فكرة " المناصحة " من حيث أصلها مبدأ راق وسام يدل عليها العقل الصريح والنقل الصحيح ، فالعقلاء يدركون أن الفكر يعالج بالفكر ، وأن النفس البشرية تحتاج إلى محاجة وإقناع للولوج إلى فكرة أو النفور منها ، وأن الانحراف والضلال في المنهج والفكرة لا يعني الصدق في حملها ، وان التاريخ يشهد أن المناصحة قد آتت أكلها مع أهل البغي والانحراف والضلال ، وهاهو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه يرسل ابن عمه عبدالله بن عباس رضي الله عنهما لمناقشة الخوارج حتى عاد منهم جماعة كبيرة حين ناقشهم بالمنطق والعقل ، وأقام عليهم الحجج بالعلم والفكر ، فوجد في جموعهم الغفيرة من هو عاقل محب للحق رجاع عن الباطل ، وهذا الافتراض بحملة الفكر هو الذي يفتح أفاق " الحوار " معهم ، وخاصة أن الكثير منهم يلتبس عليه الحق والباطل في موقف أو فكرة فمتى ما جليت له عاد وآب .. ثم إن فكرة " المناصحة " فكرة حتمية التطبيق ، لأن حملة هذا الفكر من الموقوفين وغيرهم ليسوا على مستوى واحد من العلم أو العمل ، وليسوا على مستوى واحد من الجرم ، ولا يمكن أن يطرح عاقل معاملتهم بالسوية سواء بالسجن أو بالعقوبات الجسدية ، وهذا يعني أن جزءا كبيرا منهم لابد أن يهيأ قبل الخروج ويصلح حاله قبل دفعه إلى المجتمع من خلال هذه البرامج التي تحتاج إلى توسيع لإطارها وتكثيف لجهودها . وفكرة " المناصحة " فكرة إنسانية نبيلة تقوم على اعتبار هؤلاء ضحية لغيرهم من الأيدي العابثة داخليا وخارجيا ، فهم سلك ا السبيل بلا وعي بخطورته وأضراره ، وخاصة أولئك الذين ليس لهم تعلق مباشر بأحداث العنف او القتل او التفجير او التخطيط له ، وإنما يوجد عندهم بعض الأفكار الغالية والمتطرفة التي تحتاج إلى استلال بالحوار والإقناع والرفق وتنبيه عقله ووجدانه إلى العقل الذي غاب عنه في عماية الجهل وضلال المنهج . إن المتماشي مع أصول النظرة الليبرالية للأمور والتي يدعي أصحابها الوعي الحضاري والمدني أن يشد هؤلاء من أزر هذه اللجان وضرورة وجودها بدلا من حربها وتصعيد الموقف تجاهها ، ولكن الخلاف الفكري يوقع أتباعه في " البغي " الذي تغيب معه الحقائق ، ويطغي الخلاف على البصر والبصيرة فيقع أصحابه في " تسييس الخطاب " للنكاية بخصومهم المفترضين ، فتغيب قضية " الوطن وأمنه " في أتون هذه الصراعات الفاشلة التي تعتبر جزءا من المشكلة وليست جزءا من الحل . نعم .. إنني أوافق أولئك الذين يدعون إلى العناية بانتقاء فرق " المناصحة " ، من اصحاب العقول المنفتحة والأفكار النيرة والذين لم يكونوا ضحية للصراعات الاثنينية بين التيارات والتي تجعل هؤلاء يستغلون هذه اللجان في تصفية حساباتهم الحزبية او الفكرية ، وأن يبعد منها كل صاحب نفسية متشنجة لانه يضر من حيث يظن أنه يحسن صنعا ، ويبعد عنها الضعفاء في استقراء الأفكار والدراية بتاريخ الحركات الثورية والإسلامية التي وجد فيها منازع الغلو ، ويبعد عنها من عنده قصور في المحاجة التي يجمع صاحبها بين " العقل والنقل " ، وسرعة البديهة وسعة الصدر وحسن الخطاب ورحابة الفكر ، فلا يليق مثلا ان يترك فيها من يحدث الموقوفين عن فضل " صلاة الجماعة في المساجد " ووجوب إصطحاب الأبناء إليها ، فمن يخاطب المسجونين بمثل هذا الخطاب لا يمكن أن يؤثر فيهم ، ولا يمكن أن يؤثر في الموقوفين من يبدأ معهم بوصفهم ب ( الخوارج والمنحرفين ) ، ولا يمكن أن ينجح في هذه اللجان من يمتحنهم منذ البداية بفلان وعلان من الدعاة الذين يشترك الموقوف والمناصح في تكفيرهم أو تبديعهم على أقل الأحوال ، ولا يمكن أن يستمر في لجان المناصحة من يحرجه الموقوف بمسائل دقيقة في قضايا الجهاد والمنهج وهو فاغر فاه لا يحسن جوابا ، ولا يمكن أن يستمر في هذه اللجان من يوافق الموقوفين في بعض أفكارهم نتيجه نقص علمه بمناطات الأحكام وتنقيحها وتحقيقها ، ولا يمكن أن يؤثر في هذه اللجان من لا يحسن التعامل مع النفسيات المختلفة ومعرفة مداخلها ومخارجها وكيفية التعامل مع كل نمط من انماط هذه النفوس .. وهذا يعني أن تترك الاعتبارات الخاصة أو المجاملات لبعض المشائخ التاريخيين أو حتى لبعض العلماء كبار السن الذين لا يحسنون خطاب الشباب ولا معرفة ما يدور في أفكارهم ، والتي تحتاج لمعرفة تفاصيل قد يكون العالم الكبير غير متفرغ لمعرفتها بحكم أعماله أو طبيعته العلمية ، والتركيز على نوعيات من المناصحين الذين يحملون صفات لابد ان يتوافر فيهم الحد الأدنى منها وهي : 1- العلم الشرعي باعتباره أساسا في نقض الشبهات . 2- إتقان فنون الجدل ونقض الأفكار وهذا يعني معرفة الماحجة والجدل والمنطق العقلي . 3- مستوى جيد من " الذكاء " الذي يستطيع ان يسد عجزه في بعض المواقف . 4- المعرفة بتاريخ الأفكار الغالية التاريخية والمعاصرة . 5- المعرفة - ولو محدودة - بهندسة النفوس وبرامجها . 6- الوعي السياسي والمتغيرات الدولية وطبيعة العلاقات الأممية . 7- المتابعة الدقيقة للأفكار والحركات والأحزاب . 8- النفسية الهادئة والمرحة التي تجتذب الموقوف والمستهدف لخلق " الإلفة " معه لتكون طريقا للتأثير عليه . 9- التنوع الثقافي الذي يبهر الموقوف بحيث يشعر بالعجز والاستسلام . إن هذه المهمة هي مهمة شاقة للقائمين على هذه اللجان ، ولكنها ضرورية لتؤتي أكلها فاختيار القائمين على هذه اللجان لابد أن يصرف له الجهد اللازم حتى وإن طال الوقت ، ومن ثم توسيع إطار العمل لهذه اللجان خارج إطار المؤسسات الأمنية والسجون ليقوموا بواجب الانفتاح على الشباب قبل ان ينخرطوا في هذه التنظيمات ، فكثير من الشباب عنده أفكار خطيرة ويحتاج إلى نقاش قبل ان يتحول إلى طعم جاهز لهذه الحركات ، وهذا يعني ضرورة " التحصين والوقاية " منذ البداية ، ولا يتأتى ذلك إلا أن تكون هذه البرامج هي برامج "استراتيجية " وليست برامج " تكتيكية " تنقضي بانقضاء الحدث ، أو تفتر بفتور نشاطات الجماعات الغالية ، حتى يمكن أن يقضى على هذا الفكر أو يحد منه على المدى القريب والبعيد . أخيرا ، فإن فكرة المناصحة أنطلق منها باعتبار أن " الفكر الغالي " فكر لا يمت لصلة بالفكرة الإسلامية السلفية الأصيلة التي كان عليها الصحابة الكرام ومن تبعهم ، لا في الأحكام الدنيوية ولا الأخروية على الآخرين من المسلمين ولا من غيرهم ، ولقد كان من فضل الله أن يخرج " الخوارج " في زمن الصحابة ويحسم الصحابة موقفهم منهم بلا تردد خلافا لأهل البغي ، وهذا دليل كاف على أن الوسطية السلفية الإسلامية شي ، وفكرة " الخوارج والغلاة " شي آخر مناقض ، وهو الأمر الذي يحاول كثير من الليبراليين إقناع أن لا فرق ، ولعل هذا يكون له موضوع مستقل إن شاء الله .. وفق الله الجميع ..