أكد الدكتور خالد بن منصور الدريس المشرف العام على كرسي الأمير نايف لدراسات الأمن الفكري بجامعة الملك سعود أن الضربات الاستباقية الناجحة التي نفذتها الجهات الأمنية بالمملكة أسفرت عن تحجيم الأفكار الضالة والدعاوى الزائفة التي يحاول أصحاب الفكر المنحرف ترويجها مشيراً إلى وجود قصور كبير في استثمار المراجعات الفكرية لقيادات التنظيمات الإرهابية إعلامياً في إثارة الشك الصحي في أفكار أعضاء هذه التنظيمات . وأضاف د . الدريس في حديث ل " الرياض " ان الحوار والمناقشة تحقق نتائج طيبة في المناصحة لكن دون انفصال عن استخدام القوة في مواجهة أعضاء التنظيمات الإرهابية الذين لا يرون حلاً سوى عن طريق التدمير والتخريب والقتل مشيراً إلى أن الأمن الفكري مشروع وطني عملاق يتطلب مشاركة جميع فئات المجتمع . وأعرب د . الدريس عن أسفه لتقاعس بعض المفكرين والمثقفين في دعم جهود تعزيز الأمن الفكري، وضعف أثر مؤسسات المجتمع في هذا الاتجاه ، مطالباً تجاوز الخطب إلى دراسة مهددات الأمن الفكري وطرح آليات التعامل معها على أسس علمية .. وفيما يلي تفاصيل الحوار : * تؤكد الضربات الناجحة للتنظيمات الإرهابية داخل وخارج المملكة ونجاح الجهات الأمنية والاستخباراتية في اختراق هذه التنظيمات لكن هل صاحب ذلك اختراق لفكر هذه الجماعات ؟ وهل ترى مؤشراً على حدوث ذلك؟ - النجاحات الأمنية مهمة جداً ليست على المستوى الميداني فقط ، بل هي مهمة حتى على المستوى الفكري ، إذ أن توالي الهزائم الميدانية وتوقيف الكوادر ، وضرب الخلايا النائمة ، تفت في الجهود الفكرية لأعضاء هذه الجماعات لا سيما مع توالي التراجعات الفكرية والميدانية من قبل عدد من رموزهم – كما حدث لمحمد العوفي قبل عدة أشهر - ويتجلى الأثر الأمني في الفكري أكثر بتضييق الخناق عليهم في ثلاثة أمور مهمة لهم وهي : تجنيدهم للأتباع ، وحرمانهم من التمويل ، وإغلاق منافذ التبشير بأفكارهم ، فمهما زعموا أن هذه الأمور لم تحدث أثراً في تفكيرهم إلا أن ذلك على خلاف الحقيقة البشرية ، لذا كان الحسم الأمني الميداني مهماً في إضعاف الجاذبية الفكرية لهم ، ومن تأمل هدي الرسول عليه الصلاة والسلام في أحاديثه عن الخوارج سيخرج بهذه النتيجة ، فقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : ( لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ) ، وقال أيضاً : (قاتلوهم ؛ فإن لمن قاتلهم أجراً عند الله .. لو يعلم المقاتل لهم ما أعد له لنكل " أي توقف" عن العمل) !! وما ذلك إلا لعظم جنايتهم على الإسلام وأهله ، والمتحقق المشهور أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أكثر الناس رفقاً بالخلق واستعمالاً للحوار حتى مع العصاة ، ولكنه مع الخوارج كان موقفه مختلفاً جداً مع أن انحرافهم كما دلت السنة هو انحراف فكري في الأصل سببه خلل في منهج الاستدلال والفهم كما ورد ( يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم ) وهذا يشير إلى أن لديهم مشكلة في فهم النص الشرعي وتطبيقه على الواقع ؛ لأنهم لا يفهمونه بتمعن بل بفهم سطحي لا يتعدى مجرد الحناجر مع حداثة السن والتجربة وضعف العقل والوعي ( حدثاء الأسنان ، سفهاء الأحلام ) . فالحل الأمني هو ضرورة عقلية شرعية ؛ لأنه يسهم في اجتثاث هذه الأفكار مع أهمية استعمال أساليب الحوار والمناقشة مع من قد يستفيد منها ، ولكن هي بمفردها لن تجدي إلا بالتزامن مع استعمال القوة ، لاسيما أن فكرهم بطبيعته لا يرى الحل إلا في التدمير والتخريب ، وهم بهذا يصادمون منطق التاريخ والحضارة ، بل ويهملون مراعاة السنن الإلهية في الأسباب والموانع . وفي كل الأحوال سيبقى الوطن وكيان الدولة رغماً عنهم ، مهما عملوا سنبقى وسيتلاشون ، هكذا تقول لنا دروس التاريخ وهي صادقة لا تجامل ولا تحابي . برنامج المناصحة *في ظل نجاحات الجهات الأمنية في إفشال كثير من مخططات الفئة الضالة بالمملكة.. ما هو تقييمكم لبرنامج المناصحة ، وهل يسير في خط موازٍ لنجاح الجهود الأمنية ؟ -لا يمكن أن يقلل منصف من سلامة توجهات وزارة الداخلية في التعامل بمنهجية الاحتواء الإنساني للمتورطين في تيارات الغلو والعنف ، بل إن أهم عناصر نزع فتيل المد الإرهابي الذي مررنا به قبل بضع سنوات كان هو التعامل الذكي مع الموقوفين أمنياً ، لقد نجحت وزارة الداخلية في تقديم ملامحها الإنسانية ووجهها الرحيم نحو كل الموقوفين أمنياً مع تفوقها المذهل ميدانياً ، وفي نظري أن برنامج المناصحة يحتاج إلى تطوير مستمر يقوم على دراسة قياس الأثر وفحص المخرجات ومراجعاتها من خلال التقويم الأكاديمي الاستشاري ليتحقق له التطور المستمر والتحسين الدائم لمخرجاته ، وفي تقديري أن الزملاء في برنامج المناصحة والرعاية وهم أصدقاء وإخوة أعتز بهم كثيراً ، عليهم أن يلتفتوا إلى أمور عديدة في المرحلة القادمة من أهمها التنبه إلى أن ما يسمى عند المتورطين أمنياً بالفكر الجهادي ، هو أعمق في تمكنه من نفوسهم ، من مجرد طرح شبهات والرد عليها ، وأرى أن هناك تجربة مروا بها هي من وجهة نظرهم كانت تجربة روحية عميقة جداً تجذرت في نفوسهم والتصقت بها ، وتتصف – عندهم – بما يشبه التعلق الرومانسي ، والانجذاب العاطفي المتسم بشدة التركيز والقوة والأثر في وجدانهم ، فيجب أن تعالج المسألة من منطلق كيف يرون هم تجربتهم ومن أي زاوية ، ولا نقوم بالمعالجة من وجهة نظرنا نحن فقط ، إن نكوص بعض من خضعوا للمناصحة يعود في ظني لانعدام برامج متابعة التأهيل بعد إطلاق سراحهم ، إذ أنه بعد مضي بعض الوقت تبدأ تلح عليهم فكرة خيانة المبادئ والمثل وأنهم استبدلوا الجهاد – بزعمهم – بالركون للمساكن والزوجات والأموال المكتسبة ، فيبرز نوع من الصراع بين الواقع الجديد مع ضمير ذلك المفرج عنه ومبادئه التي ترسخت في نفسه وشعوره وعقله الباطن ، إن وأبرز خلل نقع فيه أن ننطلق في معالجة أولئك الشباب على أنهم استدلوا ثم اعتقدوا ، والحقيقة أنهم اعتقدوا أولاً ثم استدلوا ، وشرح ذلك في نظرية ( القابلية للتكفير والتفجير ) فهناك مؤثرات وجدانية واجتماعية تسبق القبول بتلك الأفكار وتمهد لها بقوة وعمق ، فيصبح فكر التكفير والتفجير مبررا لحالة الغضب والاحتجاج والتمرد على الواقع ( الدولي ، والفردي ، والاجتماعي ) ، مع إحساس عميق بالعجز عن قبول الواقع ، واليأس من إصلاحه والتكيف معه ، فتتولد النزعة التدميرية للمجتمع والعالم والذات ، فليست المشكلة في الاقتناع بفهم مغلوط للأدلة الشرعية فقط ، القضية أبعد من ذلك ، هناك خلل أكبر وأعمق وأخطر يسبق انتحال فكر التكفير والتفجير ويهيئ لقبوله ويمهد لاعتناقه . الأمن الفكري *أشرتم إلى وجود ضعف في الوضع الراهن للأمن الفكري، فما هي أسباب هذا الضعف وكيف يمكن علاجه ؟ -الوضع الراهن للأمن الفكري يشكو من سلبياتٍ عدة من أهمها : وجوب إعادة بناء الصورة الذهنية للأمن الفكري لأن هذا المفهوم لدى الكثير من المواطنين هو أمر من شأن الدولة وحدها ، ووفق هذه الصورة فهو لا يعنيهم كثيراً ، والواجب هو تصحيح الصورة الذهنية للأمن الفكري بربطها بالمصلحة الشخصية للمواطن ؛ فما يضر الوطن يضر المواطن بالضرورة ، هذه الصورة الذهنية الإيجابية للأمن الفكري يجب أن يعمل الجميع على إشاعتها وتنميتها، والأمن الفكري كما يطرحه صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية - حفظه الله - هو مشروع وطني عملاق يهدف إلى تجديد الفكر وإعادة تقويمه ، وهو مشروع لا يختلف عن أي جهود بذلت تاريخياً لإصلاح الفكر أو الوعي الديني ، لذا لا أجد مبرراً مقبولاً لتقاعس بعض المفكرين والمثقفين وطلبة العلم في المساهمة الجادة والفاعلة في الجهود الرامية لتعزيزه . ومن السلبيات التي تواجه جهود تعزيز الأمن الفكري : عدم التنسيق والتكامل بين الجهات المعنية بالإضافة لعدم فاعلية كثير من جهات القطاع الخاص وسلبيته في الاهتمام أو الدعم لهذه القضية الوطنية الخطيرة ، ومن جوانب القصور أيضاً أنه حتى الآن لا يوجد لدينا في المملكة خارطة فكرية لمهددات الأمن الفكري يتم تحديثها وتطويرها باستمرار بحيث يسترشد بها في تكثيف البرامج في جهة ما أو تصميم برامج ذات مواصفات معينة مناسبة للجمهور المستهدف في جهة أخرى ، كما لا توجد لدينا حتى الآن مقاييس علمية موحدة خاصة بمجتمعنا لاكتشاف القابلية للعنف أو القابلية للتطرف الفكري ، مع علمي بوجود بعض الاجتهادات ولكنها ليست كافية للتعميم ، كما أننا نفتقر لوجود مؤشرات كمية وكيفية دقيقة يمكن الاستعانة بها لمعرفة وضع الأمن الفكري ومهدداته ، وعليه فمن الصعب أن ترسم سيناريوهات مستقبلية تنبؤية لحالة الأمن الفكري وفق المعايير العلمية لغياب تلك الأساسيات المهمة ، بالإضافة إلى نقص واضح في الدراسات المعمقة ذات الصلة بالمستجدات فمثلاً لا أعلم أن هناك دراسة علمية واحدة أجريت على أسر المطلوبين أمنياً أو الذين قاموا بعمليات انتحارية ومثل هذه الدراسة في غاية الأهمية ، والحقيقة لا يزال طريق العمل للجهات المهتمة بمنظومة الأمن الفكري طويلا جداً لأن ما يحدث الآن من جهود في تعزيز الأمن الفكري هو في الغالب من قبيل الجهود المنبرية الخطابية السهلة التي تهتم بجانب المحاضرات في القسم الأكبر منها وتغفل تأهيل الكوادر القادرة على التأثير الفاعل ، كما تهمل جانب إجراء الدراسات العلمية المعمقة ذات المنهجية الأصيلة التي تسهم في مواجهة هذه التحديات . المشكلة أعمق *على ضوء خبراتكم ،كيف ترون تفاعل مؤسسات المجتمع مع جهود تعزيز الأمن الفكري وهل ترتقي هذه الجهود إلى مستويات التحديات ؟ -هناك جهود مشكورة بلا شك ، ولكن المشكلة أعمق وأخطر من أن تحل بجهود محدودة الأثر ، والمشكلة الأساس افتقار الجهود الموجودة الآن إلى إستراتيجية فكرية شاملة ومتكاملة ذات برامج تطبيقية عملية يكون المواطن فيها شريكاً أصيلاً وليس متلقياً صامتاً سلبياً تلقى عليه المواعظ والتوجيهات ، في نظري لابد من عقد اللقاءات المفتوحة ، من قبل العلماء والمفكرين وقادة الرأي مع الناس في المساجد والمجالس الخاصة وأماكن التجمعات المختلفة ليشترك كل الحاضرين فيها بالمكاشفة والمناقشة بكل حرية وصراحة ، وقد تأخذ طابع الحلقة النقاشية أو الندوة المفتوحة أو الدورة التدريبية ، وتستعمل فيها لغة سهلة يفهمها الجميع بعيداً عن التراكيب العلمية الصعبة ، بذلك يرتفع مستوى الوعي الاجتماعي بالأمن الفكري . وأشدد بقوة على أهمية المؤسسات الإعلامية ، لأن وسائل الاتصال أصبحت السلاح الأقوى تأثيراً في معركة الأفكار ، وأهم ما يجب على وسائل الإعلام أن تقوم به لتعزيز الأمن الفكري من وجهة نظرنا : منح الشباب وقضاياهم مساحة أكبر وتكثيف الاهتمام بذلك ليكون أولوية. نشر الوعي النقدي لتكوين الشخصية الفردية المستقلة غير المنسحقة تحت سطوة الفكر الجمعي . - التركيز على بناء النظرة الإيجابية في التفكير والعمل والإعلاء من قيمة الإبداع والعمل البناء . - استعمال لغة إعلامية سهلة تتفق مع متغيرات الثقافة الشبابية . ومن المستغرب حقاً أنك تجد في صحفنا المحلية صفحات أسبوعية عن كل شيء ، وأي شيء ، ولا تجد نصف صفحة أسبوعياً على الأقل عن الأمن الفكري وسبل تعزيزه لدى الشباب وما يتصل به من قضايا !! ولعل هذا بسبب النظرة السلبية لمفهوم الأمن الفكري لدى بعض الإعلاميين ، لفهمهم له بمنظار ضيق لا يخرج به عن جملة النصائح التوعوية ، وهو في حقيقته مسألة هوية ثقافية للوطن وشبابه ومشروع فكري تجديدي يحتاج إلى مساندة إعلامية حقيقية . حلول أم تنظير *الإستراتيجية الوطنية للأمن الفكري هل تقدم حلولاً علمية أم مجرد إطار نظري وبحثي لما يجب أن يتم لحماية الأمن الفكري وهل ثمة إجراءات لضمان الاستفادة من هذه الإستراتيجية ؟ - الاستراتيجية الوطنية للأمن الفكري التي يعكف كرسي الأمير نايف لدراسات الأمن الفكري بجامعة الملك سعود على إنجازها يجري العمل فيها وفق خطوات علمية منهجية في بناء الاستراتيجيات ، وهي تتميز بأنها استراتيجية مجتمعية نحاول قدر الإمكان أن نستطلع فيها آراء عدد كبير من المواطنين وخاصة الشباب في مختلف محاورها ، وهذا ما عملنا به فعلاً في الندوات والورش واللقاءات التي عقدناها . والفريق العلمي والاستشاري يعكف الآن على تحليل عناصر القوة والضعف في البيئة الداخلية للأمن الفكري ، وتحليل البيئة الخارجية وما تحتويه على فرص ومهددات ، وسينتج عن تحليل الفجوات رسم برامج عملية تطبيقية ذات مؤشرات نجاح محددة إن شاء الله . والاستفادة من أي استراتيجية مرتبط بتبني قرار بإلزامية تطبيقها مع استمرار تحسينها بوجود جهة متخصصة لتطبيقها ومتابعة تنفيذها وتطويرها عن طريق التغذية الراجعة ؛ لأن مشكلات التطبيق وصعوبات التنفيذ تستلزم التعديل والتطوير بصورة دائمة بما يتفق مع الرؤية والرسالة والأهداف التي من أجلها وضعت تلك الاستراتيجية .