في شهر يوليو الفائت حضرت مؤتمراً علمياً حول (المساواة) و(الاحتواء الوظيفي) في أسطنبول، وفي اليوم الثاني للمؤتمر (17 يوليو 2009) توجهت إلى إحدى الجلسات البحثية فوجدتني (الرجل) الوحيد في تلك الجلسة.... وليس هذا هو الأمر الغريب، بل إنني وجت نفسي بين مجموعة من الناشطات في حركات (الفيمنيزم) Feminism أو (الحركات النسوية) في سياق نقاش ربما يكون جديراً بأن نتجاذب أطراف الرأي حوله. للدكتور عبدالوهاب المسيري ترجمة أخرى لمصطلح (الفيمنيزم)؛ حيث يترجمها ب(الحركات المتمركزة حول الأنثى)، وأحسب أن من يطلع على الأدبيات البحثية والأنشطة الفكرية والاجتماعية والقانونية لتلك الحركات يدرك مدى دقة تلك الترجمة. ومصطلح (الفيمنيزم) صيغ لأول مرة في العام 1895م، وهنالك تعريفات متعددة لتلك الحركات ومنها: (منظومة فكرية أو مسلكية مدافعة عن مصالح النساء وداعية إلى توسيع حقوقهن) وثمة رأي يذهب إلى أنها (انتزاع وعي - فردي في البداية ثم جمعي - متبوع بثورة ضد موازين القوى الجنسية والتهميش الكامل للنساء في لحظات تاريخية محددة) (أنظر: المرأة، نهى القاطرجي، 1426ه)، وقد شهدت الحركات النسوية موجات تمدد وانكماش كما تلونت تلك الحركات وتعددت اتجاهاتها واهتماماتها و(معاركها)، ومن ذلك أنه ظهرت حركة تسمى ب(النسوية الجديدة)، وهي حركة تحاول أن تبحث عن تشكيل أو بلورة (الهوية النسوية)، وتمسكت بأطروحة (الجندر) متكئة على فكرة نادت بها الفيلسوفة الوجودية الفرنسية (سيمون دي بوفوار) حيث ذكرت بأن (المرأة لا تولد امرأة بل تصبح امرأة)، كما ركزت بعض الحركات النسوية على البرهنة على وجود (نظرة نسوية للعلم)؛ فمثلاً في عام 1993م أصدرت (ليندا شيفرد) كتاباً بعنوان: المنظور النسوي للعلم، هذا بجانب مسائل كثيرة أخرى تهتم بها الحركات النسوية، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل تشكلت (حركات نسوية مضادة)، ولعل ترجمتي لأهم ما دار في تلك الجلسة يجسداً بعض المعاني والدلالات الهامة في التعاطي مع قضايا المرأة. ولكي أكون قادراً على سرد ما حدث في قالب ذي دلالة فلابد من التذكير بأنه سبق لي أن طرحت مصطلح (معاداة النسائية)، حينها قال لي أحد أصدقائي في رسالة جوال: (لقد فتحت على نفسك عش الدبابير!)، وبغض النظر عن دلالة تلك الرسالة، فإني مضطر لإعادة طرح أبرز ما قلته حيال (معاداة النسائية): 1 - من الطبيعي أن يتوجع كل من الرجل والمرأة حين يكون ثمة وجع ُيلم بأي منهما، هذا أمر متوقع ومشروع، فلا أحد يطيق أن يبتلع لسانه حين ُيمضه ألم أو يطبق عليه هم أو ضيم، ولكننا إزاء مشاكل الرجل والمرأة في المجتمع العربي - ومنها السعودي - نعاني من طغيان بعض الجوانب على أخرى؛ بشكل لا يتحقق فيه ما يكفي من التوازن والعقلانية؛ سواء من حيث منهجية تناولنا للمشاكل أو اقتراحنا للحلول... 2 - الحركة النسوية السعودية - كغيرها من الحركات العربية - أصابها قدر كبير من أمراض الحركات النسوية الغربية (الفيمنيزم) ونالها شيء من تطرفها، فقد أصيبت تلك الحركة بما يمكننا تسميته ب (متلازمة الصراخ الطفولي) من جراء افتعال خصومات مع (الرجل) وإلهاب أوار القطيعة معه، مع (عقدة نقص) قد تدفع (المرأة) إلى تقمص بعض الأدوار بشكل مضحك في بعض الحالات، ومن ذلك حين تشترك امرأة في جلسة نقاش يشترك فيها رجال، حيث نشهد موجة من التصفيق أو التأييد الهسيتري للطرح أو (الصوت) النسوي لا لشيء إلا لأنه نسوي بغض النظر عن أي اعتبارات منهجية أو علمية، ولكن هذا لا يعني أنني من أنصار تحميل المرأة كل شيء، كما أنني لست ممن يضعون على عيونهم أغطية تحجب عن عقولهم حقيقة أن ثمة ظلماً وتعسفاً يقعان على المرأة في بعض الجوانب؛ مع التقرير بعدم بذلنا لجهود جدية وكافية لتصحيح بعض الأوضاع في مجتمعنا، لكن الذي يدفعني للتعجب هو المبالغة في عملية (التشقيق) غير الواعية للمجتمع؛ إلى مجتمع (ذكوري) ظالم وآخر (أنثوي) مضطهد... 3 - حتى اللغة أضحت ذكورية وأنثوية... والحقيقة الساطعة تقرر بأن بعض المشاكل التي تعانيها المرأة لا يتحملها الرجل ك(رجل)؛ بل المجتمع بشبكاته المعقدة وتراكماته المختلفة... 4 - أفضت تلك (المتلازمة) التي أصابت الحركة النسوية العربية إلى مما يمكننا تشبيه بحركة (معاداة السامية) لدى الصهاينة، فأنت ك(رجل) يمكن أن توجّه لك تهمة ب(معاداة النسائية) لمجرد طرح وجهة نظر تخالف مبادئ أو توجهات أو تطلعات بعض رؤوس تلك الحركة، وهذا هراء يجب إيقافه أو إدانته على الأقل. هذه التهمة أو الظاهرة - معاداة النسائية - أفضت إلى نوع من الإرهاب الفكري، لدرجة متطرفة أوصلت البعض إلى جعل (التهمة) هي الأصل وليس البراءة، فمن يطرح في الشأن النسوي سيصنف وفق ذلك لا محالة، وسيصطف قضاة لمحاكمته بعد أن يتأكدوا من اكتمال ودقة الأدلة على براءته من قائمة الاتهامات: (تهميش المرأة) وإقصائها والحجر على عقلها ومخاشنة وجدانها ومصادرة إبداعها... 5 - كل ما سبق يؤكد على حاجتنا الماسة إلى استرجاع عقلانيتنا حين نعالج مشاكل الرجل والمرأة، فالأهم هو معالجتها في بوتقة النسيج الاجتماعي دون افتعال أي لون من الخصومة أو العدائية، على نحو يمكننا جميعاً من الإفصاح عن آرائنا بكل شفافية وسماع حقيقي لهموم المرأة والرجل على حد سواء، وابتكار أدوات للحل ومشاريع للعلاج، على أن تكون منصفة ومتوزانة في إطار منظومتنا الثقافية والحضارية والتي تنبثق من نصوصنا الإسلامية وتطبيقاتها السمحة في ظل المبدأ العظيم (النساء شقائق الرجال)؛ ذلكم المبدأ الذي يعترف بمزايا كل من الرجل والمرأة (إيجابيات)، وعيوب كل منهما (سلبيات)، ليس ذلك فحسب بل وخصائصهما (صفات محايدة) وهي الأكثر في نظري، وربما يكون مدخل الخصائص أو السمات من أذكى المداخل المنهجية التي ستفلح في استعادة تلك العقلانية وذلك التوازن في أجواء من العدالة والاحترام والصدق والتواضع والتكامل. وسيكون هذا الطرح وهذا الكشف الصريح عن عقدة (معاداة النسائية) توطئة لي لتقديم بعض الآراء حول المرأة والحركة النسوية العربية عموماً وفي السعودية خصوصاً، والكشفِ عن مزيد من العقد والشفرات والطلاسم في مناسبات قادمة. وبعد التذكير بما قلته حول (معاداة النسائية) يتعين علي العودة إلى أهم ما دار في تلك الجلسة البحثية مع بعض الناشطات في (الفيمنيزم) أو (الحركات المتمركزة حول الأنثى)، والتي ضمت عدداً من الأكاديميات الغربيات وعربية واحدة (مغربية)، وقد ُطرح ورقتان بحثيتان ودار حولهما نقاش ساخن، ولعلي أتناول ذلك في مقال قادم.