التحفز نحو البحث عن بناء حداثة في المجال الإسلامي، ما كان من الممكن إلا على أساس التخلص من هيبة ورهبة الحداثة الغربية، وكون أن هذه الحداثة الغربية لا تمثل تمام الحداثة واكتمالها، وليست هي الحداثة الوحيدة والنهائية في تاريخ العالم، ولا حداثة سواها، بقدر ما تمثل واحدة من الحداثات التي عرفها الاجتماع الإنساني. بمعنى أن الحداثة ليست غربية من حيث الجوهر والطبيعة، ولا بد من فك الارتباط الفكري والتاريخي بين الغرب والحداثة، وبالتالي لا يحق للغرب تملك الحداثة، ولا من الغرب يبدأ وينتهي الطريق إلى الحداثة. وهذا ما ثبت عند الدكتور طه عبد الرحمن، وما حاول إثباته أيضا، والبرهنة عليه، في كتابه (روح الحداثة.. المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية)، والرأي الذي يرتضيه الدكتور طه أن الحداثة عبارة عن إمكانات متعددة، وليست كما رسخ في الأذهان إمكانا واحدا، ودليله على ذلك أن المشهد الحداثي الغربي ليس بالتجانس المظنون حسب قوله، بل فيه من التنوع ما يجوز معه الكلام عن حداثات كثيرة، لا حداثة واحدة، فهناك باعتبار الأقطار حداثة فرنسية وحداثة ألمانية وحداثة إنجليزية وحداثة أمريكية وغيرها. وهناك باعتبار المجالات حداثة سياسية وحداثة اقتصادية وحداثة اجتماعية وسواها. كما إن للحداثة في القطر الواحد مراتب عدة، فهنالك أقطار حظها من الحداثة في هذا المجال أو ذاك أكبر من حظها منها في ما عداه، كأن تكون حداثتها الصناعية أقوى من حداثتها القانونية، أو تكون حداثتها الاقتصادية أقوى من حداثتها السياسية، وهكذا. وعلى ضوء هذا التصور يصل الدكتور طه إلى مدار نظريته في الحداثة الإسلامية القائمة على إثبات الدعوة التالية، وهي كما أن هناك حداثة غير إسلامية فكذلك ينبغي أن تكون هناك حداثة إسلامية، وذلك بناء على خلفية يقررها الدكتور طه بقوله: فلا يعقل أن يتقرر في الأذهان أن الحداثة تأتي بالمنافع والخيرات التي تصلح بها البشرية وأن تتحقق هذه المنافع والخيرات في الأعيان، ثم لا يكون هذا الجزء النافع منها متضمنا في الحقيقة الإسلامية، وهل الزمن الإسلامي إلا بمنزلة الزمن الأخلاقي الذي تتحقق فيه ظاهرة الحداثة، والذي يتمم ما نقص في سابق الأزمان من المكارم، ناهيك عن أن كل دين منزل يمد الإنسان بأسباب الصلاح في دنياه، فضلا عن أسباب الفلاح في أخراه، فإذن لا بد أن تدخل الحداثة الصالحة في الممارسة الإسلامي!. وكما أن للحداثة الغربية أشكالا مختلفة فكذلك ينبغي أن تكون للحداثة الإسلامية أشكال مختلفة، لذا يرى الدكتور طه أن مقاربته للحداثة الإسلامية هي على الحقيقة مقاربة لواحد من الأشكال التي يجوز أن تتخذها الحداثة الإسلامية، وإذا كان الأمر كذلك حسب قوله لزم أن تؤخذ أحكامه واستنتاجاته على قدرها، فلا يظن به أنه يقصي غيرها من الاجتهادات التي تتعلق بأشكال أخرى غير الشكل الذي يرتضيه، ولا يظن به أيضا أنه يجمد على هذا الشكل الحداثي المرتضى عنده كما لو أنه كان مكتملا ونهائيا. ولكون أن ما قام به الدكتور طه هو محاولة اجتهادية جديدة من نوعها في حقل الدراسات الفكرية الإسلامية، لهذا فإنه لا يستبعد مطلقا إمكانية تنقيح هذه المحاولة وتهذيبها، بل وحتى إمكانية تصحيحها وتحويرها منه أو من غيره. وما يبتغيه حسب قوله هو أن يضع نموذجا حداثيا على أصول إسلامية عامة يتفق الجمهور على مضمونها، ليبين كيف أن منافع الحداثة لا تتحقق في المجال التداولي الإسلامي فحسب، بل إنها تتعدى ذلك إلى أن تنزل فيه رتبا أرقى من الرتب التي كانت لها في المجال التداولي الغربي، وتثبت كيف أن الفعل الحداثي يجد رقيه في الممارسة الإسلامية بما لا يجده في ممارسة غيرها. [email protected]