وانظر مثلاً إلى تقاطع مفهومات المحدث، والحديث، والحداثة لاجتماعها في التعبير عن مفهومي التغيير، والتجديد، فالذكر المحدث ذكر تغييري، وفي المحدث قضى التجديد كذلك والحديث والحداثة يتعاقب على وظيفتيهما التغيير والتجديد أيضاً، والذكر التغييري قابل للتجديد (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها). وتجديد الدين يكون بالتنبيه إلى ما غفل عنه الناس من أحكام الدين، وإعادة المفاهيم إلى حقائقها التشريعية. ولا يتطرق التجديد بالزيادة أو بالنقصان لما شرعه الله من الدين. ففي التجديد روح التشاكل المعرفي.. فالمعطى المعرفي المتشاكل من أصول المرجعية، وهي أصول إلهية يضيف إلى فعل هذه المعرفة بما لا يخرج عن فلسفتها التصورية تفعيلاً يتم وفق رؤيتها الكونية. هذا ما أكد عليه الذكر المحدث الذي جعل وحي القرآن كالروح {يلقي الروح من أمره على من يشاء}، وهذه الروح أبدية بأبدية هذا الوحي .. فهي ليست مرحلية أو منقطعة، أو متوقفة عن إمداد الجسد بالحياة والحركة. ولما كان المحدث الإلهي يقبل التجديد، وله من الفاعلية ما له في التأثير على الخطاب العربي الإسلامي في عمومه. فقد طبع الحداثة التجديدية بطابع التداول المرحلي التاريخي الذي يواجهها كل جيل برؤيته الواقعية المعاصرة للحياة.. ألم يقل أبو عمرو بن العلاء في الحداثة الشعرية المعاصرة أو آنذاك (لقد كثر هذا المحدث حتى هممت أن آمر فتياننا بروايته). وقد قال ابن الأعرابي: (أشعار القدماء مثل المسك والعنبر كلما حركته ازداد طيباً، وأشعار المحدثين كالريحان يشمل يوماً ثم يذوي فيرمى به). وهذا المفهوم المعاصر للحداثة، مؤشر على أن لكل عصر حداثته التجديدية التشاكلية، التي تعبِّر عن مشكلات العصر ولا تخرج على الحقيقة الكونية، ولا على استثمار اللغة في أقصى طاقاتها دونما إخلال بقانون الحقيقة، واللغة. وقد ذكر الثعالبي في مقدمة كتابه (يتيمة الدهر) أن سبب محاسن أهل عصره من الشعراء راجع إلى رواء الحداثة، ولذة الجدة. وعنده أن التحقيبات الحداثية التداولية بدأت بأشعار المتقدمين من الجاهليين. وذكر بعد ذلك أشعار الإسلاميين، والمحدثين، والمولدين، والعصريين. وقد فضل هؤلاء العصريين على سائر الشعراء قبلهم، فشعر الجاهليين أقوى، وشعر الإسلاميين أرق، وشعر المحدثين ألطف، وشعر المولدين أبدع، وشعر العصريين أجمع لنوادر المحاسن. وحداثة العصريين في نظره ليست في مستوى واحد من الأداء والفضل، والتقدم. فحداثة الشاميين الشعرية أرقى من حداثة العراقيين، وحداثة هؤلاء تتقدم على حداثة شعراء أهل الجبال، وتأتي حداثة أهل خراسان متأخرة عن الأقسام الثلاثة الأولى. فانظر إلى تنوع وتعدد هذه الحداثات الذي يأخذ بعضها برقاب بعض. وكيف تمحورت فاعليتها حول التجديد والمعاصرة. وأن هذا من المركوز في طبائع الناس. إن هذه الحداثة المتشاكلة التي تراعي في حركتها التاريخية المعطى الديني في تصوره، وتشكيلاته، وقيم الخبرة الإنسانية ذات الامتلاك بتصورات الدين، وتبحث عن الحقيقة الكونية قد أحدثت شيئاً من التوازن الملموس بين الدين، والدنيا. في تفاعلهما الذي حقق وثوق العلاقة بينهما. وهذا ما كانت تفتقر إليه محدثات التوراة والإنجيل ، والصحف التغييرية التي لم ينبثق منها حداثات تشاكلية تنطلق من تلك الكتب، وتعود إليها بما تحمله من خبرات إنسانية تنسجم مع المعطى الإلهي. فكانت النتيجة ذلك الانفصام بين أصول الحداثة الكتابية، ومستجداتها التي ابتعدت عن المشاكلة لها، ومعها. فبدأ البحث عند أهل تلك الكتب يتجه إلى خلق حداثة تغييرية جديدة، وفق رؤية العقل لصناعة الحياة الجديدة، التي اهتمت بنقل المجتمع القديم إلى مجتمع صناعي حديث. فانسحب هذا البعد العلمي التغييري على المعطى النظري، وإطراح بعض القار من القيم دونما تحفظ، وقيام العلاقة بين الحداثة التغييرية، والتراث الأيديولوجي على مبدأ التغليب، وليس على شرائط التجديد؛ توهماً من أصحاب هذا الحراك الحداثي التغييري بتعارضه مع القديم. فسار التجديد في ظل التغيير، وهذا أسهم إلى حد كبير في تجاوز الماثل إلى درجة الهدم، وتعميم الثورة المعرفية التجريبية، وغير التجريبية، والقطيعة مع المرجعيات التراثية جميعها. فتأسست الحداثة الغربية أكثر ما تأسست على مفاهيم المغايرة والاختلاف، والبحث عن رؤية جديدة لا تشبهها أية رؤية قديمة. إن أكثر تعريفات الحداثة عند الغرب لا تخرج عن وصفها بالثورة التغييرية. وقد كان للدعاية الإعلامية والسياسية، والعلمية أثرها في الترويج لهذه الحداثة التغييرية، وإشاعتها بين الثقافات حتى غدت ظاهرة عالمية. إن الحداثة الغربية كانت نتيجة تحولات من داخل المرجعية الغربية شكلها المفهوم التاريخي والاجتماعي المغيّر وليس المتجدّد. المتقاطع مع التحديث. وإن عالمية هذه الظاهرة لا تعني دخول الثقافة المكية في شرطها. فالتغيير الذي يرفض ليقبل، ويهدم ليبني، سينشأ عنه مشكلات ذهنية، وحسية، دينية، وأيديولوجية. فالرفض والقبول والهدم الذي هو طريق البناء إذا قبلت به بعض التصورات الوضعية قبولاً مطلقاً، أو مقيداً ولو إلى حين؛ فإن مرجعية شرعية كالنص المكي القائم في أصوله المعرفية الثابتة على التشاكل، وليس على المغايرة لا يمكن بحال من الأحوال أن يكون مطواعاً للتغيير المطلق. لكنه سيقبل المتغيّر العلمي أو النظري الذي يدخل في شرطه التصوري للكون. نظراً لانفتاح مرجعية النص المكي عالمياً. {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}. والقرآن ذكر للعالمين، ومحمد صلى الله عليه وسلم نذير للعالمين، والدخول في شرط الإسلام يكون بالاختيار وليس بالإكراه. {قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل}. هذا هو منتهى الحرية والانفتاح في الاختيار. {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي} (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين}. إننا إذا اتفقنا على أن الحداثة ظاهرة عالمية، وتاريخية تحقيبية وتداولية بين الأجيال، والثقافات الأممية، وأن وظيفتها الجمع بين المشاكلة والمغايرة كلية أو جزئية؛ فإن الحداثة غير المتشاكلة مع التراث الإلهي ستفضي إلى إحداث انفصام وانفصال كلي، أو جزئي بين المقدس، والمادي. وخير شاهد على ذلك حداثة التغيير المادي الصناعي الذي أضعف دور الكنيسة، ووظيفتها، وغلّب الدولة على الدين إلى درجة فك الارتباط بينها مع أنه لا تعارض بين النص المقدس، والعلم التجريبي. وإخفاق الحداثة الغربية التغييرية في إحداث التناسب والتوازن بين الروحي والمادي سيكون نتيجة حقيقية إذا ما سعت الحداثة الإسلامية إلى تبني مفهوم الثورة الكلية التغييرية للحداثة. فالذي يتلاءم مع المحدث التغييري المكي هو البعد التجديدي من الحداثة. الذي سيتعامل مع مرجعية هذا النص من داخله. فالدين ليس فيه دين الماضي، ودين الحاضر والواقع. إنه دين الزمان كله استرجاعاً، واستباقاً. والبحث في الواقع لا يتم حل إشكالاته دونما استصحاب للنص المقدس. وهذا الائتلاف بين النص والواقع يكسر حدة المواجهة بين التراث والحداثة في أي مستوى من مستوياتها الوظيفية. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا بمشروعية قوية وفق معطيات الحداثة التغييرية. كيف ستنتهي رحلة النص المكي المحدث إذا ما تحول التحاور معه من معطيات المفاهيم التجديدية لحركة التاريخ إلى واقع المفاهيم التغييرية الحداثية؟ إن الاختلاف حول ما في الذكر المحدث أمر واقع الحدوث بين الناس. والحداثة التغييرية ستستمر في رحلتها التاريخية حتى نهاية التاريخ. والذين يزعمون أن الحداثة فترة زمانية ولحظة تاريخية انتهت وجاء بعدها ما سموه (ما بعد الحداثة) فرية تدفعها الحداثة التي تظهر بأسماء جديدة كالعولمة وما سيأتي بعدها من وجوه حداثية تداولية جديدة. ومن المؤشرات التغييرية المتوقعة بأن تطرأ على بنية النص المكي المحدث ما جاء في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: «بدأ الإسلام غريباً، ويعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء». وقيام الساعة ونهاية التاريخ الكوني المحسوس إنما تقوم هذه اللحظة على شرار الناس. فهل تكون حركة التاريخ حبلى بجاهلية تنتجها حداثة التغيير في آخر الزمان؟ إن كانت التوقعات تشير إلى شيء من ذلك؛ فإن حقيقة الغيب مما اختص الله به نفسه.