قبل سنوات طويلة كنت أتصفح كتاب "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفةَ أصحاب الجحيم" لابن تيمية، وكما حصل مع محقق الكتاب حامد الفقي فقد اعترتني الحيرةُ حيث تداخلت القواعد وتلاشت الحدود بين الضوابط التي كان الشيخ يسعى لترسيخها عبر مئات الصفحات، فالتشبه المحرم بالكفار في لباسهم وعاداتهم ومحاكاتهم في اللغة أو الألفاظ، توسعت تطبيقاته عند من نقل الشيخ عنهم من المحدثين والفقهاء ، حتى دخل المسلمون من(العجم) وغير العرب في حكم الفئة التي يتحتم تمايز المسلم عنها، مع تأكيد الشيخ نفسه على أن التشبه المحرم يجوز إذا ترتب على ذلك مصلحة عامة راجحة، ومن عادة الشيخ الاستطراد والإسهاب في الاستشهاد حداً يصيب قارئه بالدوار وهذا ماحصل معي، وخلفت تلك القراءة أسئلة كثيرة لم يشفها عشرات الأسئلة التي وجهتها إلى بعض مشايخي وآخرين من طلبة العلم. إن العلاقة المعقدة بين العرب وبين الفرس وشعوب الشرق من أمم العجم موغلة في القدم، ولكنها اتخذت صبغة دينية مع الخليفة الثاني عمر بن الخطاب لمكانته بين المسلمين وتأثيره العميق في التشريع الإسلامي حتى اليوم، فقد وضع الخليفة الثاني إجراءات تقلل من توافد أبناء الفرس -والشعوب التي اعتنقت الإسلام في عهد الفتوحات- إلى الحجاز مركز السلطة الروحية والسياسية وقتها، وخشية تأثير ثقافة أبناء الحضارة الفارسية، اعتمد الخليفة إجراءات صارمة في الملابس والعادات تقلص من مظاهر ذلك التأثير الكاسح، وفي وصاياه للجيوش الفاتحة مايثبت ذلك حين يوصيهم بالتزام (المعديَة) وهي طرائق العرب باللباس والعادات، وبلغ الأمر غايته حين كان يتولى بنفسه تأديب الجواري اللواتي يلبسن كما تلبس الحرائر من نساء عرب المدينة، ولكن التأثيرالفارسي الثقافي تعاظم بعد ذلك ليبلغ شتى مناحي الحضارة الإسلامية، ويضع بصمته على الفلسفة والفنون والآداب وعلوم القرآن، ولم يكن مستغرباً أن يلقى الخليفة عمر حتفه على يد نجار فارسي لايزال الشيعة الإيرانيون حتى اليوم يحيطون مثواه الرمزي في إيران بهالة من التقديس. وعمر شأنه شأن المؤسسين الكبار للأمم لم يجد بداً من أن يستنسخ من الحضارة الفارسية المندحرة عسكرياً معظم التراتيب الإدارية في تسيير شئون الدولة وديوان الجند وغيره، وغصَّت إثر ذلك دواوين الخلفاء والأمراء بالكتاب من أبناء فارس ، ولكن الخليفة العظيم كان له رؤية خاصة تجاه سالم مولى أبي حذيفة وهو أحد الموالي الذين أسلموا وهم صغار في حياة الرسول ، وسالم من أهل اصطخر الفارسية، وكان له مكانة خاصة عند الرسول ولدى سيده أبي حذيفة، بدأتْ تلك العناية مبكراً منذ سنوات مراهقته، وقد كانت الرغبة عارمة في إدماجه بالمكيين القرشيين ليكون بَضْعة منهم فقد سمح الرسول لزوجة أبي حذيفة بإرضاعه من حليبها بعد أن ظهر شعر لحيته، وبعض أزواج الرسول اعتبرن ذلك خاصاً بسالم من دون الناس، لأن المشكلة التي كان يواجهها بيت أبي حذيفة من وجود رقيق أو خدم يكثر اختلاطهم بمحارم أسيادهم تعاني منها معظم البيوت في المدينة وغيرها وخصوصاً عند ذوي اليسار منهم، ولكن السنة النبوية لم تنقل لنا وقائع أخرى تسامح فيها الرسول كما حصل مع سالم. قام أبو حذيفة ابن عتبة بن ربيعة بتزويج مولاه سالم بن معقل من بنت أخيه فاطمة بنت الوليد ابنة خال معاوية بن أبي سفيان الخليفة الأموي، وحين صارع عمر سكرات الموت قال" لو كان سالم مولى أبي حذيفة حياً لاستخلفته " لولا أن سالماً كان قد لقي حتفه قبل ذلك بعشر سنوات في حروب اليمامة التي عرفت بحروب الردة وهو لم يبلغ الثلاثين، ومايحملني على التأكيد على مثال سالم هو أن الاعتناء به بدأ في حياة الرسول في المدينة، وفي مرحلة متأخرة بعد تضاؤل أهمية المستضعفين والسابقين من الموالي وغيرهم ، واعتناق عدد كبير من سادة قريش وزعماء العرب للإسلام. شق سالمٌ طريقه بصمت جامعاً بين العلم بالقرآن وصادقِ الإيمان وقوة الشخصية وسداد الرأي، وكانت شمائله تتهذب وملكاته تكتمل تحت عين الارستقراطية القرشية ورعاية النبي ومحبته له، وجاء انتقاده العلني لتجاوزات خالد بن الوليد في بني جذيمة، إحدى الوقائع التي أضيفت إلى رصيده ورسخت له مكانة في الظل لم يكن حتى لكبار القرشيين من بني العاص بن وائل أن ينالوها، فضلاً عن عمَّار بن ياسر أو سلمان الفارسي. أصهر سالم وهو الفارسي في أكبر بيوت العرب مجداً ورفعة في الجاهلية، بيت ادخر له التاريخ صولجان الخلافة والملك لاحقاً، وقد عُهِدَ في بني أمية استدخال الأشخاص ذوي القدرات الفائقة وإلحاقهم نسباً بالبيت الأموي، وقصة أبي سفيان مع زياد بن أبيه بعدما رأى إعجاب عمرَ به، وماقام به ابنه معاوية لاحقاً مع زياد تؤكد ذلك. ربما يقال إن حس عمر السياسي وقدرته الفائقة على التنبؤ رشحاه وهو صاحب المبادرات الجريئة أن يخطو خطوة تجهض مطامح القرشيين المتطلعين إلى حكم رقعة تعج بعشرات القوميات التي لايشكل فيها العرب سوى نسبة ضئيلة للغاية، وأن يعيد صياغة مفهوم الحكم بعد السقيفة وفق رؤية جديدة تجعل أبناء فارس شركاء في الحكم، وغني عن القول أن الفرس من الموالي والأحرار في صدر الإسلام كان لهم منزلة خاصة لم تكن لمن عداهم من الأفارقة أو من مسلمي بلاد السند وما وراء النهرين وغيرهم ممن اندمجوا في الإسلام وقنعوا بما أوتوا، يشهد لذلك نصوص كثيرة رغم ضعفها تتحدث عن فضل أبناء فارس. وفي المقابل فإن الاعتداد المبالغ به بالعنصر العربي نجده عند مثل ابن تيمية الحراني الكردي، حيث ذكر في كتاب اقتضاء الصراط المستقيم أن معتقد أهل السنة والجماعة أن جنس العرب أفضل من جنس العجم المسلمين، وأن من يفضلون بعض العجم على العرب هم من المنافقين المشكوك في صحة إسلامهم، وابن تيمية عاش في القرنين السابع والثامن الهجريين/ الثالث عشر الميلادي، والقادة والحكام المتنفذون في عصره كانوا من المماليك، وقد يكون هذا الميل العاطفي عند الشيخ للعرب هو الذي دفع أحد متأخري الحنابلة لأن يدعي له نسباً في قبيلة بني نمر.