الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد ولد آدم أجمعين، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فمن المعاملات التي كثرت وانتشرت في الفنادق والمطاعم، والتي لا يكاد يخلو أحد إلا ولابسها: ما يسمى ب (البوفيه المفتوح) أو ما يشبهه مما يسمى ب(الأكل حتى الإشباع)، وقد اختلف العلماء في هاتين المعاملتين، لذلك أحببت المشاركة بهذه المقالة، سائلاً الله أن يبارك فيها ويجعل فيها النفع والفائدة.. بداية، أود توضيح هاتين المعاملتين بصورة موجزة: تعريف "البوفيه المفتوح" فالبوفيه المفتوح: هو عبارة عن وضع أصناف المأكولات مطبوخة على مائدة، ويقوم الآكل بالمرور عليها واختيار ما يناسبه منها ووضعها في طبقه، ثم يجلس على طاولة مخصصة للطعام لتناول تلك الأطعمة. تعريف "الأكل حتى الإشباع" أما الأكل حتى الإشباع: فهو عبارة عن تقديم قائمة بالمأكولات التي يمكن تقديمها للآكل، ويقوم المشتري باختيار ما يريد منها ثم يقوم المطعم بطبخها وتقديمها له، وفي الغالب يشترط المطعم تحديد طلب واحد فقط وبعد الانتهاء منه يحق له أن يتقدم بطلب آخر. وفي كل من البوفيه المفتوح والأكل حتى الإشباع يكون هناك سعر موحد يدفعه المشتري مقدماً أو مؤخراً للدخول في كل من المعاملتين. هذه مقدمة يسيرة لتوضيح حقيقة المعاملتين، ثم أدلف إلى حكمهما الفقهي، فأقول: التأصيل الفقهي للغرر إن العلماء المعاصرين قد اختلفوا في هاتين المسألتين بين مبيح وحاظر، إلا أن سبب الاختلاف هو اختلافهم في تحقيق المناط، فمن قال بالتحريم: قال إن في المسألة غرراً كثيراً، ومن قال بالإباحة قال: إن في المسألة غرراً يسيراً مغتفراً .. فكلهم متفقون على تحريم الغرر، لكن هل الغرر المحرم متحقق في المسألة أم لا؟ هذا هو محل البحث. بناء على ذلك فأرى من الأهمية أن نقدم مقدمة في التأصيل الفقهي للغرر –باختصار-: فالغرر هو: البيع المجهول العاقبة، وهذا تعريف شيخ الإسلام، وهو تعريف مناسب جداً، فكل بيع تجهل عاقبته فإنه داخل في الغرر. مثال ذلك: أن يقول البائع للمشتري: بعتك ما في جيبي بخمسين ريالاً، فهذا غرر، لكون المشتري لا يعلم ما في جيب البائع، فقد يكون كثيراً وقد يكون قليلاً، وهذا بيع مجهول العاقبة. حكم المعاملة التي تحوي غرراً والسؤال: ما حكم المعاملة التي تحوي غرراً؟ والجواب –باختصار-: إن الأصل في المعاملات الإباحة، لكن إذا دخل الغرر في المعاملة فإنه يؤول بها إلى التحريم إذا توفرت فيه أمور أربعة: 1- أن يكون الغرر في عقود المعاوضات، كالبيع والإجارة، أما عقود التبرعات فلا يحرم الغرر فيها لكونها تبرع في الأصل، فأحد الطرفين إما غانم أو سالم، وعليه: فلو قال: أهديت لك ما في جيبي، فإن ذلك جائز-مع كونه مجهولاً-؛ لأن المهدى له إما غانم إذا كان ما في جيبه ذا قيمة، أو سالم فلا يخسر إن كان ما في جيبه لا قيمة له. 2- أن يكون الغرر كثيراً، فلو كان الغرر يسيراً فإنه مغتفر، بل إنه لا تكاد تخلو معاملة من غرر يسير، مثاله: لو باع سيارة لشخص، فإنه لا يعلم هل إطاراتها تعيش لسنة أو لسنتين أو لا تتجاوز شهراً، لكن هذا غرر يسير مغتفر، فالغرر إن كان يسيراً فلا يضر. 3- أن لا يكون الغرر تابعاً، بمعنى أن يكون الغرر مقصودا في العقد، فلو قال: بعتك هذه السيارة، فقال: قبلت، وهو لا يعلم هل في السيارة إطار احتياطي أم لا، فإنه لا يضر لكونه غرراً وجهالة تابعة، وليست هي المقصودة بالعقد أصالةً، ولذلك يحرم بيع التمر قبل بدو صلاحه لكونه مجهول العاقبة، فلا يُعلم هل سيبقى ويصبح صالحاً للأكل، أو يفسد ويصبح شيصاً، لكن لو أن شخصاً اشترى من آخر مزرعة كاملة بأشجارها ونخيلها، وفي نخيلها ثمر لم يبدُ صلاحه، فإنه لا يضر لكون هذا الثمر غير مقصود بالبيع أصالةً -حتى وإن كان له وقع في الثمن- لكن العبرة بما هو المقصود في العقد. 4- ألا تدعو إلى الغرر حاجة، بأن يكون الشيء لا يباع إلا بوجه فيه غرر، ومثاله: أن يبيع الرطب وهو على رؤوس النخيل، وذلك بأن يأتي بشخص خبير بالخرص، فينظر للنخلة ويقول: هذه تمرها كذا وكذا كيلاً أو صاعاً، فيتم العقد على ذلك ويقوم بعد ذلك المشتري بالشراء وتنزيل الرطب من رؤوس النخل، وربما يكون أقل وربما يكون أكثر، لكن يغتفر هذا لكون العقد بهذه الصورة تدعو له الحاجة لكون البائع لو أنزل التمر وانتظر المشترين فربما ييبس الرطب قبل أن يشتريه أحد فيتضرر المشتري، فهنا يباح هذا النوع من الغرر لكونه تدعو له الحاجة إذ لا يمكن البيع إلا كذلك، ولو حصل بغيره لأدى إلى مشقة يسيرة .. إذا تبين هذا فيقال: إن الغرر إذا تحققت فيه هذه الشروط (في عقود معاوضات، كثيراً، أصيلاً، لغير حاجة) فإنه يحرم، وإذا تخلف أحدها لم يحرم البيع، وبهذا تتبين المقدمة في هذه المسألة.. حكم البوفيه المفتوح والأكل حتى الإشباع وعليه فيقال في البوفيه المفتوح والأكل حتى الإشباع: إنه على نوعين: 1. مجاني .. كالتي تقدمها الفنادق لزوارها .. فهو جائز: إما لكونه مجاناً، أو لكونه تابعاً للسكن في الفندق، فهو تابع وليس مقصوداً أصالة. 2. بمقابل: وله صورتان: أ. بوفيهات الأعراس ونحوها: كالتي يطلبها صاحب العرس لضيوفه من أحد المطاعم أو الفنادق، فهذه جائزة إذا تم تبيين القائمة مسبقا لصاحب العرس وتم إحضارها بالأعداد المطلوبة أو أكثر.. لكون الغرر فيها يسيرا.. ب.بوفيهات المطاعم، كالتي يطرحها مطعم لزبائنه وتكون داخل المطعم فيعرض عليه الأكل منها حتى الشبع بمقابل محدد، فهذه الظاهر فيها عدم الجواز لظهور الغرر فيها، بل وتقصد أصحابها إلى الغرر، ويظهر ذلك في الصور الآتية: 1. تقديم السلطات الرخيصة أولا .. 2. كتابة قوائم الطعام بلغة أجنبية أو أسلوب غير مفهوم .. 3. وضع القوائم الرخيصة في الصدارة وإخفاء الغالية أو التقليل منها.. 4.التباطؤ في توفير القوائم الغالية والتأخر المؤدي إلى الملل، أو زعم نفادها.. 5. تضخيم الطلبات الرخيصة لتؤدي إلى الإشباع سريعا من حيث العجين والخبز والمرفقات ونحوها. 6. وضع أطعمة أو مشروبات بمبالغ إضافية وعدم تبيين ذلك للآكل، حتى إذا جاء وقت المحاسبة إذا به يفاجأ بمبالغ إضافية لتلك المأكولات التي تُعد خارج الطلب. الغرر من جهة المشتري وقد يكون الغرر من جهة المشتري، في الصور الآتية: 1. طلب المأكولات الغالية فقط.. 2.الأكل أكثر من المعتاد لطول فترة الجوع.. 3.الأكل فوق الحاجة، وفي هذا تغرير بالمحل وإضرار بالنفس.. 4. أكل بعض الطعام بقصد الإضرار بالمحل أو استرداد قيمة ما دفعه.. 5. إطالة وقت المكوث بقصد استرداد قيمة ما دفعه ومنع المحل من الاسترباح بإجلاس زبائن آخرين.. ضوابط الخلو من الغرر وعلى هذا فيقال: إن الأغلب في بوفيهات المطاعم التحريم، وتراضي الطرفين عليها لا يجعلها مباحة، إذ ما حرمه الشرع لا يبيحه تراضي الطرفين، كالربا فهو محرم وإن تراضى عليه الطرفان، إلا أنه يمكن أن يحكم بجواز تلك البوفيهات إذا التزمت بالأمور التي تبعدها عن دائرة الغرر المحرم، ومن ذلك: 1.توضيح قائمة الطعام المعروضة بلغة مفهومة مع بيان كميتها (وإن أمكن بيان أسعارها الحقيقية فهو أفضل وبخاصة المأكولات الرئيسة) ولا يجوز للمطعم إلغاء بعض الطلبات دون بيان في القائمة المعروضة.. أو تقديم طلبات بأسعار أخرى لا تدخل ضمن البوفيه إلا بعد إشعار الآكل بذلك وبيان قيمتها حتى يكون دخوله عن بينة. 2. أن يكون تقديم الطعام حسب رغبة المشتري وفي زمن معتاد .. 3. أن تكون المأكولات الرئيسة موحدة، أو على الأقل تكون أسعارها متقاربة ليقل الغرر .. ويقترح لمن أراد وضع أطباق متفاوتة أن يجعل البوفيهات أنواعاً وبأسعار مختلفة.. 4. لا يجوز للمشتري الأكل أكثر من حاجته لما في ذلك من الإضرار بنفسه .. 5. لا يجوز للمشتري طلب أكثر من حاجته للإسراف ولما فيه من الإضرار بالمطعم.. 6. على من يقدم تلك الخدمات أن يتقي الله ولا يتقصد التغرير بالآكل وأخذ أمواله.. فإذا تحققت تلك الضوابط فإنه تنتفي المحاذير الموجودة في تلك المعاملة، ويصبح الغرر فيها مغتفراً، وبالتالي يمكن أن تكون قيمة الآكلين متقاربة، ويمكن حينئذٍ قياسها على أجرة الحمام والتي تكون الخدمة فيها موحدة (ماء حار لا يختلف)، وتكون كمية الماء المستخدمة متقاربة بين المستفيدين. والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.