تم تناول القولبة الفكرية في المقال السابق، وتم تسليط الضوء على ماهية تفعيل التفكير الجمعي، الذي يرتكز على توحيد الخلفيات الاجتماعية والثقافية في سبيل تحقيق السيطرة الفكرية لتيار دون آخر، ويكون هنا.. ساحة المعركة والمغنم هو المجتمع بكافة أطيافه ومقدّراته، لأن العقل الجمعي يتكوّن من مجموعات لا تستمع بسهولة إلى آراء الخُبراء والاختصاصيين –وإن فعلت لا تُطبّق- كما أنها لا تنساق إلاّ خلف اختياراتها وتفضيلاتها الخاصة فقط. إذاً: تأثير هذه الموجة الاجتماعية هو خيط مؤثر ويمكن له أن يُصعّد وتيرة أي تيار من هذه التيارات. تم طرح بعض التساؤلات التي أثرت على نمو أو انحسار تيار دون آخر، ومدى التأثير الذي ربما يلحق بالمجتمع جرّاء هذا الصراع الفكري، ما هي أسس هذه الثقافة التي تحاول أن تقولب المجتمع ؟! هل نحن نعيش حالة تصادم بين فكرين نتيجتهما تغريب مجتمعي؟! هل نحن نعيش حالة انشطار فكري؟! ماذا لو عرفنا أنه ليس كل تشدّد ديانة، وليس كل معصية خيانة، هل يتحوّل المجتمع إلى حصان طرواده لفكر ما.. وما هي الأسس التي ينطلق منها كل فكر في أجنداته؟! وك..توطئة للشروع في إلقاء الضوء على هذه التساؤلات أنطلقُ من مقولة لأحد منظِّري الليبرالية العالمية وهو "برتراند راسل 1872-1970"، الذي يقول في إحدى عباراته "الحرب لاتحدّد من هو المُصيب؛ بل تُحدّد فقط من هو الذي سيبقى" وإن كانت هذه المقولة مؤصَّلة في أذهان "الليبراليين" فقد اتّضح النسق العام لهذا الفكر، ألا وهو البقاء وليس غيره أمام أي فكر آخر في حال حدوث "حرب فكرية" مع أي تيار آخر مُخالف للتيار الليبرالي. إذاً: الخط العام لهذا الفكر والأسُس التي تُبنى عليها كل ماب عدها هو الانتصار للفكرة أولاً وأخيراً، وفي حال حدوث مايؤرق مضجع هذا الفكر وحامليه، بالتأكيد سيكون هناك تصدٍّ شرس، قوامه وعدّته وعتاده، المجتمع بكافة أطيافه دون تحفّظ وهذا ما يبرز لدينا في حال نشوب أي تصادم فكري خاصة العربية منها. في المقابل نجد أحد المُفكّرين وهو المحسوب على الفكر التقليدي القريب من "الراديكالية" بحكم انتمائه الشديد ودفاعه عن "البروتستانتية" وهو الأديب والمُفكِّر "هيرمان هسه 1877-1962" يقول في إحدى عباراته الشهيرة: "كنت فقط أريد أن أعيش وفق الدوافع الحقيقية التي تنبع من نفسي، فلماذا كان ذلك بهذه الصعوبة الشديدة"، ومن خلال مثل هذه العبارة التي نتلقفها من داخل الفكر "الردايكالي المحافظ" نجد أنه أيضاَ لا يقبل أن تتم مصادرة حقوقه الفكرية التي تنبع من الذات أو الضمير كما يتم تصنيفه لدى أصحاب هذا الفكر، فهم في التركيبة الفكرية العامة أصحاب حُجّة عقائدية مؤدلجة، يتم استخدامها في حال التصادم مع أي فكر آخر، ويتكئ أصحاب هذا الفكر على الإرث الثقافي الكلاسيكي الذي تم بناؤه عبر أجيال، تارة بالترغيب وتارة أخرى بالترهيب. لو سلطنا الضوء على تلك المنطقة الفاصلة بين هذين النمطين من الفكر، نجد أن كليهما يحاول أن يستلب المجتمع ليُصبح إحدى أدواته لتحقيق مشروعه الفكري، بالرغم من أن هذا الفكر أو ذاك هو أحد إرهاصات التحوّل المجتمعي من مرحلة إلى مرحلة أخرى، التي من شأنها خلق تيارات وأفكار متجدّدة وليست جديدة بطبيعة الحال، لأن ما نعيشه هو حالة استنساخ فكري سابق بما يتوافق مع المعطيات التي نعيشها وإخضاع هذا الفكر للواقع بأي شكل من الأشكال، لذلك خرج إلينا فقه الواقع وفقه المتوقّع .. وغيرها من المصدّات الفكرية التي تم تجديدها بشكل يتناسب مع النمط الذي نعيشه. يقول المُفكّر العراقي "علي الوردي 1913-1995" أنه من الخطأ إقناع الطرف الآخر برأي – ما - بالبراهين نفسها التي نُقنع بها أنفسنا" وهنا تتم مُصادرة الحرية الفكرية التي تُبنى عليها أي قناعات، لأن القناعات الراسخة عادة ما تتحوّل إلى خصوم للحقيقة المُجرّدة، وهي هنا أشد خطراً من أي محاولة تعليب أو تأطير لأي مجتمع، وبالتالي لسنا مع أو ضد ك..مُتلقين لكننا نبقى في المنطقة الخضراء –الآمنة على الأقل- فكل أحدٍ منّا مرهون بأصغريه "قلبه ولسانه" ولذلك يربأ بنفسه أن يكون مطيّة فكرية لتيار – ما - أو أن يكون وقوداً لصراعٍ فكري يبحث عن الانتصار المُطلق وألا يكون في الساحة الفكرية غير أدواته وأحدها بالتأكيد هذا المجتمع. شخصياً .. لا أتفق مع بعض الطروحات "الليبرالية أو الراديكالية" فكلاهما مقصٌّ لمناهِضِه يحاول أن يجعل الفكر المضاد مشجباً للتحلل أو التخلف، الحريّة مبتغى بالتأكيد بما لا يسلب الآخر حقه في حريته هو أيضاً، فإن كان هذا الفكر ينادي بأن يكون للفرد والمجتمع حريته التي لا يتم استلابها من قبل الفكر الآخر، فعلى الطرف الآخر أيضاً أن يحترم الحرية الفكرية للفكر المناهض له، ممارساته وأدواته التي يستخدمها هي ليست حكراً على تيار دون آخر، وهي أيضاً ليست حِلَّا لأحد وحراماً لغيره، فليس بالضرورة أن يتّفق الجميع على الفكر بقدر ما يتّفق على أن المجتمع أسمى من أن يتحوّل إلى أداة ووسيلة لتأصيل الفكر. يقول الحق تبارك وتعالى ((وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا(13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا))13-14/الإسراء. وكثيرةٌ تلك الكُتب التي ستكون وبالاً على أصحابها للأسف، ما لم يكن هناك إنصاف من داخل الذات وتقييم لما يتم نشره وانتشاره بين أطياف المجتمع المختلفة التي بطبيعة الحال تختلف كثيراً عن أدوات أصحاب كل فكر، فما يتم إضماره شيء وما تم نشره شيء آخر.. فهل نحن مُدركون؟