بالرغم من أن مصر لم تعرف يوما الهدوء منذ سقوط نظام مبارك السابق، وفى كل لحظة هناك الجديد والمثير، فإن قرار مكتب الإرشاد التابع لجماعة الاخوان المسلمين بترشيح خيرت الشاطر، نائب المرشد، للرئاسة قد وضع البلاد على سطح صفيح ملتهب. جاء القرار بمثابة قنبلة فى وجه كل الأطراف، فكان رد الفعل من كل الأطراف دون استثناء، وتبارى كثيرون فى تحليل الدوافع والتأثيرات والإنعكاسات المحتملة، غير أن البورصة المصرية قالت كلمتها الأولى، فقد خسرت فى افتتاح التداول بعد أقل من عشر ساعات على إعلان القرار أربعة مليارات من الجنيهات، فى إشارة إلى التوجّس والقلق مما يفكر فيه الإخوان بشأن مستقبل البلاد اقتصاديا وسياسيا على السواء. تغير الخريطة الرئاسية لقد جاء القرار القنبلة ليُحدث تغيير كبيرا فى خريطة مرشحى الرئاسة. فنزول مرشح بوزن الشاطر فى جماعة الإخوان ويبدو مدعوما ولو جزئيا من تيارات إسلام سياسى أخرى، من شأنه أن يزيد التشتت فى الأصوات المنتظر أن تذهب إلى مرشح إسلامى.
والمسألة هنا ليست مجرد زيادة عدد المرشحين عن التيار الإسلامى مرشحا آخر، بل المسألة فى الوزن النسبى الذى يمثله الشاطر فى مواجهة الشيخ حازم أبو إسماعيل ود. عبد المنعم أبو الفتوح ود. سليم العوا، والذى يمثل كل منهم رمزا لفكر إسلامى ورؤية حركية وفئات عريضة من المناصرين والداعمين، ولكنهم كانوا يُراهنون بشكل أو بآخر على الحصول على دعم الإخوان او جزء منهم ولو بطريقة غير معلنة.
هكذا اختلفت الخريطة تماما، وهو اختلاف لم يخلو من ردود افعال من داخل وخارج التيار الإسلامى نفسه. فبعض شيوخ التيار السلفى المعاصر كالداعية عبد الرحمن عبد الخالق اعتبروا ترشيح الشاطر من باب "الغدر وإخلاف الوعد والعهد"، وذلك استنادا إلى وعود وإعلانات وتأكيدات سابقة اعلنتها الجماعة بعدم الترشح على منصب الرئيس، وهى الوعود التى كانت مبررا لقرار الجماعة من قبل لفصل د. أبو الفتوح، وهو القيادى الإخوانى البارز، من الجماعة بعد إصراره على خوض الإنتخابات الرئاسية كمرشح لتيار إسلامى مدعوم من قطاع كبير من شباب الاخوان الذين يرون فيه "قائدا قادرا على قيادة الأمة واستكمال مشروعها النهضوى الاسلامى بكل شفافية وأريحية".
وإذا كانت أحزاب إسلامية اخرى، كالنور السلفى والأصالة السلفى لم تحدد موقفا من ترشح الشاطر للرئاسة، وترى أن الأمر بحاجة إلى فتوى شرعية لتحديد المرشح المناسب وفقا للمقاييس الإسلامية الذى يجب مناصرته والوقوف ورائه، فهناك من اعتبر كحزب البناء والتنمية التابع للجماعة الإسلامية التى اشتهرت بالتغيير العنيف فى التسعينات ثم تخلت عنه نهاية العقد ذاته، أن ترشيح الشاطر "قرارٌ صائب لا مناص من تأييده".
وبالقطع، فإن هذه المواقف تعكس حيرة التيار الاسلامى فى تحديد الشخص الأنسب للرئاسة، كما أنها تعكس حالة الإرتباك لدى بعض السلفيين الذين أعلنوا من قبل تأييدهم الصريح للشيخ حازم أبو اسماعيل الذى قدم أوراق ترشيحه وعدد توكيلاته 150 ألف توكيلا (بزيادة 120 الف توكيل عن العدد المطلوب قانونا).
وفى كل الأحوال تبدو فكرة المرشح الاسلامى الواحد، محل التأييد من التيارات الاسلامية، غير واقعية، ويدعو كثيرون إلى أن يكون صندوق الإنتخابات هو الفيصل ليس فقط لاختيار المرشح، بل أيضا لكشف مستوى الشعبية الحقيقى للشاطر ومن ورائه جماعة الاخوان وحزبها الحرية والعدالة، وأيضا كشف مستوى شعبية المنافسين الآخرين سواء من الإسلاميين أو من غيرهم. نظرية المؤامرة وحديث الصفقات بعد إعلان القرار القنبلة، لم يهدأ الساسة والباحثون فى تفسير ما حدث، وفى بيان ما سيكون. وهنا لابد من ملاحظة مهمة، فالكم الهائل من التفسيرات السيارة التى تطوع بها ساسة ومحللو الفضائيات يبدو متناقضا وغير مقنع أحيانا، وكثير منه يستند إلى مقدمات وينتهى إلى نتائج مختلفة.
كما أن الكثير من المعلومات تبدو مبهمة ومنقوصة سواء ما يتعلق بالضغوط التى مُورست على أعضاء مكتب الإرشاد لتأييد ترشيح الشاطر بعد ثلاث جولات من الإجتماعات، أو ما تعلق باللقاءات التى قال البعض إنها حدثت بين الشاطر وقيادات فى المجلس العسكرى للتدليل على وجود "صفقة ما" تمهد لترشحه للرئاسة. إذ تشير تقارير إلى توتر وأزمة سادت اللقاءات، وأخرى تعتبرها دليلا على شراكة بليل.
ثمة مساحات من السواد فى كل القصص والتفسيرات المتاحة، وهو ما يفتح الباب أكثر وأكثر أمام نظرية المؤامرة وحديث الصفقات بين المجلس العسكرى تحديدا وجماعة الاخوان والترتيبات الغامضة وما شابه ذلك. ومثل هذا الأمر يعنى أن كل ما يطرح فى جانب التفسير لقرار الجماعة مجرد اجتهادات قابلة للأخذ والرد خاصة فى ظل غياب المعلومات الموثقة والدقيقة، أما ردود الأفعال فبعضها بات واضحا ومحددا، وأما النتائج المتوقعة فهى مجرد احتمالات على أقصى تقدير. اللحظة الصعبة يذكر هنا أن قرار ترشيح الشاطر جاء فى لحظة صعبة بالنسبة لجماعة الاخوان وحزبها الحرية والعدالة من زاويتين؛ الأولى أن الجماعة وحزبها، واستنادا إلى الطريقة التى تم بها تشكيل الجمعية التأسيسية للدستور من مائة عضو، جاء أغلبهم من التيار الاسلامى ومحسوبين على الجماعة وحزبها، وضعهم فى مواجهة مع كل التيارات السياسية فى المجتمع، وكذلك فى مواجهة مؤسسات دينية وغير دينية ونقابية، اتفقوا جميعا على أن تشكيل الجمعية كشف نوايا الجماعة فى استبعاد الاخرين، وفى وضع دستور على مقاسها الخاص، وليس على مقاس المجتمع المصرى ككل. ومن هنا جاءت الإنتقادات العديدة والإنسحابات من أعضاء محسوبين على التيار المدنى والليبرالى فضلا عن انسحاب كل من الأزهر والكنيسة الأرثوذكسية من الجمعية التأسيسية ونقابة العمال.
الزاوية الثانية تتعلق بما يوصف بالأزمة بين الجماعة والمجلس العسكرى بشأن بقاء أو إقالة حكومة كمال الجنزورى، التى أيدها الاخوان عند تشكيلها باعتبارها حكومة تسيير أعمال لمدة وجيزة، وليس مطلوبا منها تحقيق اختراقات كبرى فى الإقتصاد، وإنما فقط وقف التدهور إلى حين انتخاب الرئيس، وتسلمه السلطة من المجلس العسكرى. رغبة الإخوان فى تشكيل حكومة في المقابل، عبر حزب الحرية والعدالة عن نيته فى إقالة الحكومة وتشكيل حكومة ائتلافية يقودها، مبررا ذلك بأن أداء حكومة ضعيف جدا وأن القاعدة الشعبية للاخوان تحملهم مسؤولية هذا الضعف باعتبار أنهم فى البرلمان ولكنهم عاجزين عن محاسبة الحكومة أو إقالتها، وأنهم لذلك يريدون ان يشكلوا الحكومة بحيث تكون مسنودة بأغلبية برلمانية تتيح لها دعما وجرأة فى معالجة المشكلات كلها.
وطرحت قيادات إخوانية أولا أن تكون الحكومة الإئتلافية برئاسة خيرت الشاطر باعتباره رجل تجارة واقتصاد يمكنه أن يفعل الكثير ويقلب الأوضاع للأفضل. وهو ما رفضه المجلس العسكرى وما زال، وبات معروفا أن العلاقة بين الطرفين عنوانها الرئيسى الأزمة وغياب الثقة. وقد جعل تداخل البعدين المُشار إليهما جماعة الاخوان فى موقف لا تحسد عليه، إذا باتت فى مواجهة مع غالبية المكونات السياسية في البلاد.
مع ذلك، يصر عدد من محللى الفضائيات على أن الأمر ليس سوى "أزمة مفتعلة تهدف إلى التغطية على صفقة"، قوامها تسليم المجلس العسكرى السلطة بكاملها للإخوان وحزبها، على أن يضمن هؤلاء ما يسمى بالخروج الآمن لقيادات المجلس العسكرى بعد انتهاء مهتمهم فى إدارة المرحلة الانتقالية. ويتجه البعض إلى الإستنتاج بأن المجلس العسكرى هو الذى يفتعل الأزمة بغية البقاء فى السلطة بعد المدة المعلنة فى نهاية يونيو المقبل، أو على الأقل المساومة مع الإخوان وغيرهم بهدف الحفاظ على مكاسبه الكبيرة، وأن يُتضمن ذلك فى الدستور الجديد.
مثل هذه النوعية من التحاليل المسكونة بهاجس المجلس العسكرى، وإدانته الدائمة وتحميله كل الأوزار، تعجز فى كثير من الأحيان عن القراءة السليمة لعناصر المشهد السياسى المتقلب، كما تعجز ثانيا عن فهم دورها السلبى فى وصول البلاد إلى هذه الحالة من الإرتباك والتشرذم، كما تعجز ثالثا عن تفسير العلاقة بين مواجهة الاخوان وغالبية المكونات السياسية والنقابية والحزبية فى المجتمع، كما تعجز رابعا عن تقدم الدليل الدامغ بأن ثمة صفقة مخبأة فى الأكمام. الاخوان .. أزمة مع المجلس العسكرى الإخوان من جانبهم يُحمّلون المجلس العسكرى مسؤولية دعم حكومة عاجزة، ويرفضون ما يعتبر تهديدا ضمنيا بحل متوقع للبرلمان استنادا إلى ما يُثار إعلاميا حول حكم محكمة دستورية متوقع قد يقضى بعدم دستورية قانون الإنتخابات البرلمانية الأخيرة. ويشددون على تخوفهم من فقدان الثورة ومكاسبها، ويرون فى ترشح بعض الشخصيات ذات الوزن والمحسوبة من وجهة نظرهم على بقايا النظام المخلوع للإنتخابات الرئاسية أمرا قد يحُدّ من ويعوق تطلعهم فى قيادة مصر ونهضتها. ومن هنا جاء قرارهم بترشيح الشاطر لضمان رئيس يضمن غلبة الإخوان وفكرهم.
البعض هنا يرى أن الإخوان كشفوا عن وجههم الحقيقى، فهم لم يغيروا كل وعودهم الخاصة ب "المشاركة لا المغالبة وحسب، بل هم يسرعون الخطى وفى عجلة شديدة من أجل إتمام السيطرة على مؤسسات الدولة وجعلها تحت قيادتهم، لأنهم يرون أن هذه اللحظة المنتظرة منذ أكثر من ثمانين عاما قد لا تتكرر فى المستقبل مرة أخرى، خاصة إذا فاز رئيس محسوب على التيار غير الإسلامى. ويضيف آخرون أن هذا التسرع محسوب من أجل تطبيق فكر وخطط التمكين من حكم مصر مرة واحدة وإلى الأبد، والتى تسربت من قبل مرارا ونُسبت تفاصيلها إلى خيرت الشاطر نفسه.
وفى السياق ذاته، يمكن أن نفهم كل تلك الإنتقادات التى وُجّهت لقرار الجماعة من زاوية أن الثورة لم تأت لكي يحل الإخوان محل الحزب الوطنى المخلوع ويهيمنوا على مؤسسات الدولة ومقدراتها، أو ليأتى رجل أعمال كالشاطر ليحل محل أحمد عز رجل الأعمال المسجون حاليا والذى أفسد الحزب الوطنى المنحل، وأفسد الحياة السياسية وكان سببا فى ثورة العباد والبلاد. د. حسن أبوطالب - القاهرة- swissinfo.ch