كنت قد رويت لكم كيف تحولت من شابة تسخر من روايات السحر والجن لأخرى تعيش وهم التعرُّض لمسّ أو سحر بعد حلم جامح قابلت به وجهاً لوجه جنيّة بعينَي حيوان.. وما بدا ككابوس عابر فجّرهُ عشاءٌ دسم تحوّل إلى مرض سيطر على حياتي.. ساعات نومي تقلصت للربع وتدهورت شهيتي وبين هذا وذلك بدت ملامح المرض والسهر تطفو على وجهي وتخطف بريق عيني.. سرت أنباءُ حالتي في السكن وبدأت وفودٌ الزميلات "الخبيرات" تتقاطر عليَّ، كلٌ تنصحني بمخرج أو وسيلة أو تقدم لي وصفة.. لم أكن أعتقد بنجاعة أساليبهم وكنت أشرع في التهكم عليها كعادتي حتى ينهرني صوتٌ داخلي ويأمرني بعمل ما يمكن للخروج من هذه الحالة المزعجة!! لا هدايا البيض ولا حبات الفلفل الأسود المحترقة ولا البخور عطن الرائحة ولا تعويذات زميلاتنا الإفريقيات نفعت.. آيات القرآن كانت توفر لي راحة نسبية، ولكن سياط الأحلام القلقة كانت تجلدني رغم ذاك..! في تلك الفترة اطلعت على عالم جديد .. عالم المشعوذين المبهر.. فبعض زميلاتي الكويتيات في الجامعة وصفن لي براعة الشيخ فلان وتمكّن الشيخ فلتان فذهبت إليهم بقدمي.. أما الزميلات الوافدات فزودنني بمشايخ يعاينون الحالة "هاتفياً" ويعالجونها - بلاسلكي - عبر المكالمات الدولية!! كنت أستطيع ان أرى بجلاء أن هؤلاء زمرة ممثلين - تتفاوت براعتهم من فرد لآخر بالطبع - لكنهم بدوا وكأنهم خريجو مدرسة واحدة ولكني رغم ذلك كنت أسمع وأذعن لهم!! أسئلتهم كثيرة وتحليلاتهم واستنتاجاتهم عامة جداً.. والقاسم الطريف بينهم جميعاً هو عشقهم للنساء.. فرغم مظاهر التقوى والورع التي يكتسون بها إلا أنهم لا يقاومون التغزل في "الزبونة" وأغلبهم قفز لاستنتاج مفاده أن جنياً وقع في غرامي، ولكني كنت أخيب آمالهم بالقول إن "البطلة" كانت جنية، وأن كل الأحلام اللاحقة، التي ازدحمت بشخصيات بلا وجه وشديدة الطول، لم يكن بها ما يوحي بالعشق والهيام!! "احرقي هذا.. وكُلي ذاك.. واستحمي بهذا الماء وألبسي هذا الحرز وحذار من أن تفتحيه" فتحت أحدها بالمناسبة فوجدت فيه قرون فلفل وكلمات بلا معنى"!! عموماً، وبعد أسابيع بدت وكأنها أشهر، طلبني الدكتور أحمد "مدير التحرير اللبناني / معلمي وصديقي" لمكتبه وسألني عن سبب تراجع أدائي" فقد كنت وقتها أدرس صباحا وأعمل صحفية مساء" فأخبرته بالخطب، وسرعان ما ثار في وجهي "وأعتقد أنه شتمني بالفرنسية أيضاً مستغلاً جهلي باللغة!!" خرجت من مكتبه ورجمت نفسي لأنها لا تستطيع أن تكتم سراً، بعد دقائق عاد وطلبني فعدت متثاقلةً إلى مكتبه ودخلت بسخط واستياء، فأجلسني وقال : تعرفين بنت الممثل الشهير "ع.ع"؟ لقد قضى عليها والدها بعد أن دخلت دائرة السحرة والمشعوذين وقد فقدت الآن عقلها كليةً.. كيف تسمحين لنفسك وأنت التي لم أر خلال سنوات عمري الخمسين شابة خليجية بذكائك أن تقعي في فخ كهذا؟! قال مقرعاً.. أخبرته بأني لم أكن أصدق مثله ولكن الواقع أجبرني على دخول هذه العوالم الغيبية.. أخبرته أن ثمة أمورا يعجز المرء عن السيطرة عليها ودروبا قد يجره القدر لمنتهاها دون إرادته.. أعتقد أني أوشكت على البكاء عندما نظر لعيني وقال: أنت مؤمنة يا لميس.. وقوية.. وبإيمانك وقوتك تستطيعين الخروج من هذا الفخ لا بالاستعانة بالمشعوذين. **** نعم يمكن لكلمات عابرة من شخص تحترمه أن تغيّر حياتك.. خرجت من عنده وأنا أحتقر لميس الجديدة، تلك التي جعلت نفسها ورقة تتلاعب بها رياح الجهلة والموتورين.. نظرت للمرآة فكرهت شحوب وجهي وذبول عيني.. طلبت تلك الليلة من صديقاتي اللواتي سهرن حولي على مدار شهر ونصف الشهر أن ينصرفن ويخلين المكان لي و"لجنياتي".. قرأت القرآن وقررت النوم ونظرت للأمر بتحدٍ: "يا أنا.. يا أنتو يا حضرات يا أسياد!!" ملأت نفسي بالأفكار الإيجابية وبالعزيمة واللامبالاة وكانت المفاجأة.. عادت لي الكوابيس ولم تكن ليلتي أفضل من سابقتها! ورغم ذاك نفضت القلق عن كاهلي صباحاً وبدوت أفضل.. وبعد ليلتين أو ثلاث حلمت أني أقرأ القرآن وأن الكائنات من حولي تذوب وأعتقد أن تلك كانت وسيلتي النفسية لتوديع تلك الحقبة.. لا أعرف اليوم كيف أفسر ما مررت به وكيف ولكني عرفت بوجود عالم كامل يرتزق على سقطات النفس وتقلبات اللاوعي.. ولو سألت اليوم كيف طاوعت هؤلاء لما ملكت الإجابة ولكني أعتقد أن المرء في مرحلة ما يكون عُرضة للإيحاء والانسياق وراء الجهلة ولو كان ذكيا، لهذا جعلت مقولة نيتشة "لا تعجبوا.. حتى النجباء يمكنهم أن يقعوا في شرك الجهلة" في صدر المقال السابق ولكني تعلمت على الأقل التالي: أن جبروت النفس أقوى من وصفات الدجالين وسحر السحرة، وأن في كل منا قوة داخلية كامنة تنتظر مَن يفجّرها.. ويستثمرها.