"لا تعجبوا.. حتى النجباء يمكنهم أن يقعوا في شرك الجهلاء" نيتشة كنت ليلتها قد خلدت للنوم مبكراً واستيقظت فجراً لأكمل دراستي في الصالة هرباً من إغراء المخدة.. كانت الصالة الممتلئة عادة خالية إلا من طالبة تتوسد الأريكة العتيقة مرتديةً نقاباً وعباءة!! نسبة المنقبات في السكن لم تكن قليلة ولكنك لا ترى أياً منهن بالغطاء في بيئة السكن الخالية تماماً من الرجال ولهذا تملكني العجب، ولكني أخفيت دهشتي وبادرتها بسؤال باهت: - جميل هو المكان دون ضوضاء الطالبات قلت مستحثةً إياها على الحديث لأسمع صوتها وأميز شخصيتها فردت بكلمة "أها" خالية من أي تعابير..! - مَن أنت؟ وجدت نفسي ملزمة بسؤالها مباشرة: ارفعي نقابك لأراك؟ أردفت بحزم.. ترددت ولكنها رفعت نقابها بتنهّد وروية، لم تكن من سكنة طابقنا، ولم أكن قد رأيتها من قبل وحدست أنها ربما تكون جديدة ولكن الريبة حاصرتني واتحدت مع نفور أصابني بسبب الرائحة العطنة التي عمّت الأجواء.. ثم تنبهت لجزئية زادت توجسي منها، فرغم أن ملامحها كانت طبيعية إلا من طبقة بثور تغطي وجنتيها، إلا أن عينيها كانتا غريبتين جداً، قبيحتان بشكل استثنائي وتقعان في منطقة وسطى بين أعين البشر وأعين الحيوانات..! قررت أن أنسحب بهدوء من هذا الوضع المريب فقلت لها: هل أذن الفجر..؟ أعتقد أني سأصلي قبل أن أبدأ الدراسة فأطرقت قبل أن تقول "لا أعرف.. فأنا لا أصلي"..! دب الخوف في أوصالي وفجأة وجدت نفسي على فراشي، كان الموقف كابوساً إذن والحمد الله، ولكن أمراً ما كان مختلفاً في هذا الكابوس فخلافاً لكل أحلامي وكوابيسي بدا واقعياً جداً وحقيقياً جداً ولكني عدت ونفضت الفكرة من مخيلتي ولمتُ وجبات فوزي - طباخ السكن المصري - الدسمة على ذلك الحلم المريع، جاهلةً أن تلك الليلة ستكون بداية فصل غريب في حياتي وتجربة لم أتوقع أن أمر بها أنا بالذات!! ***** قصص الجن والجنيّات والتلبس والمسّ والسحر وسواها أمرٌ أساسيٌٌٌّ في تجمعات المراهقات والشابات.. في مهجع الطالبات كانت تلك الروايات وجبةً تتسامر حولها الفتيات ويلكنّ خباياها وأسرارها وإشاعاتها.. كان السكن مكوناً من 6 طوابق وأُخلي الطابق السادس لما أُشيع عنه أنه مسكون فرفضت الفتيات السكنى فيه!! ورغم وجود مختلف الجنسيات في السكن إلا أن الطالبات كن يتحلقن بالذات حول العُمانيات ويضايقنهن بالأسئلة حتى يجدّن عليهن بقصص مثيرة لا قبل لهن بها عن عجائب وخوافي عالم الجنّ والسحر والأطفال الذين يتحولون لكائنات غير مرئية تعود لمنازلها لتأكل وتختفي وقصص أخرى مخيفة عن تحول جميلات لحيوانات أو وقوعهن تحت هيمنة جني أو ساحر ما وغيرها من القصص التي كانت تسترعي فضول الفتيات اللواتي يفغرن أعينهن من الدهشة والخوف.. كغيري كنت أستمتع أحياناً بتلك القصص، أستمتع ولا أشتري ما يُقال ولا أصدقه لذا كنت مستمعة "غير محبذة" لفشلي في كتم تشكيكي وحتى عندما ينتزعن مني وعداً بعدم إنكار القصص كنت أسكت بصعوبة ثم أنخرط فجأة في ضحك متواصل يُفسد جو "الجلسة" المشحونة بالرعب والتوتر!! وحتى عندما شهدت بعيني ذات ليلة تجمهر الفتيات على طالبة دخلت في حالة لم أرها في حياتي.. وبدأت تصرخ بهستيريا وتكلم وهي ترتعد شيئاً تراه ولا نراه وتصدر أصواتاً مرعبة فيما تقرأ الأخريات عليها القرآن، اعتقدت في قراره نفسي أنها مصابة بحالة نفسية أو.. تُمثل..! فأمثالي ممن يولدون بعقلية تشكيكية لا تقبل إلا بما هو علمي ومُثبت لا يمكنها بسهولة أن تهضم الغيبيات أو تتقبل ظواهر ما وراء الطبيعة، ناهيك أن معرفتي بوجود كثير من الدجالين والمحتالين جعلتني أنحاز لفكرة أن تداخل عوالم الجن والأنس، واعتداء الأولى على الثانية، ما هو إلا وهم يروج للارتزاق منه..! *** ولكن شيئاً ما تغير بعد ذلك الكابوس.. شعرت بوجود تغير غريب في حياتي.. لم أعد أستطيع النوم لأكثر من 3 ساعات على الأكثر يومياً. وتخللني خوف غير مبرر جعلني أصر على نوم صديقاتي الثلاث في غرفتي وأنا التي أحب أن أستأثر بهواء الغرفة وحدي!! كن يقرأن عليّ القرآن فتنتابني أحاسيس مزعجة وسرعان ما نال الإرهاق وقلة النوم من وجهي فبدوت شاحبة ومريضة.. أسابيع مضت وصحتي تتدهور، وكانت الساعات القليلة التي أنام فيها تعذيبا مرا.. ولاسيما أنها كانت مُطعمةً بمشاهد وأحلام بغيضة لكائنات وأحداث تتداخل بها اليقظة والنوم!! (يتبع) ...