رمضان شهر الصيام احتضن الكثير من الأحداث والمعارك احتفى بها التراث العربي الإسلامي، بعضها شكلَّ مفاصل تاريخيه واُخرى انتصارات حولت مسارات في اتجاه القوى. عين جَالُوت معركة تعتبر إحدى هذه المحطات التاريخية وحدثت في الخامس والعشرين من رمضان عام 658ه الموافق 1260م، أي بعد سنتين من اجتياح المغول بغداد وإسقاط الدولة العباسية التي كوّنت حضارة لعدة قرون، ملأت التاريخ بعطاءات بعضها له ذكر إلى يومنا هذا. عين جَالُوت والمغول تُعد المعركة الأولى التي هُزم فيها المغول بعد حملاتهم المتكررة والمدمرة. أرهبت فيها المدن الآمنة والحواضر العامرة ، كانوا كالجراد المنتشر ، تهاوت لهم الدولة الخوارزمية والدولة العباسية، فدخلت العراق وفارس وبلاد الشام وغيرها من البلدان في حكم المغول. إلا أن معركةً عين جَالُوت تعتبر بداية تقهقر المغول والتخلص منهم في كثير من جغرافية العرب والمسلمين. تلك المعركة لا يُبالغ أن تُعد فاصلة في التاريخ الإسلامي حيث تمكن فيها جيش المماليك بقيادة سيف الدين قطز من إلحاق أول هزيمة بجيش المغول وقائده كتبغا الذي عينه هولاكو على تلك المعركة، وهولاكو هو حفيد جنكيزخان مؤسس الامبراطورية المغولية. قطز واسمه محمود هو من سلالة خوارزمية يُنسب إلى ممدود بن خوارزم شاه، تم اختطافه من قبل المغول وهو صغير وانتهى به الأمر أن يكون مملوكا للسلطان الأيوبي في مصر وهو نجم الدين أيوب آخر الملوك الأيوبيين. قيل إن اسم قطز أُطلق عليه من قبل المغول، ويعني بلغتهم الكلب الشرس؛ وذلك لشراسته التي صاحبت اختطافه وهو صغير. قطز برع في فنون القتال في مدارس المماليك وخدم الدولة الأيوبية في صد الحملة الصليبية السابعة في معركة المنصورة مع الملك نجم الدين أيوب وذلك عام 1250م. بعدها تدرج قطز بين القادة المماليك وتمكن بالبراعة والقوة ليصبح الملك الثالث عام 1259م في دولة المماليك الذين حكموا مصر وتوابعها قرابة ثلاثة قرون، وهذا حدث بعدما سقطت الدولة الأيوبية في مصر التي دام حكمها ثمانين سنة. الدولة العباسية قبل عين جَالُوت وقعت فيها انتكاسات مريرة على يد الجيوش المغولية تمثلت بسقوط الدولة الخورازمية ثم تبعها سقوط بغداد بعد حصار دام أياماً فاستبيحت المدينة، وقُتل الخليفة المستعصم بالله فسقط حكم العباسيين ثم تبع ذلك خضوع جميع مدن الشام وفلسطين لهولاكو. مصر كانت في تلك الفترة تئِنُّ من الصراعات الداخلية بين بقايا الأمراء الأيوبيين والمماليك والتي انتهت باعتلاء سيف الدين قطز عرش مصر سنة 1259م سلطانا لمماليك مصر. بعدها بدأ بالتحضير لمواجهة المغول فقام بتحسين الأوضاع الداخلية لمصر وبسط الأمن بالقضاء على الطامعين بالحكم، وأصدر عفوا عاما عن المماليك الهاربين من مصر الذين هربوا خوفا بعد مقتل فارس الدين أقطاي وهو قائد البحرية في معركة المنصورة ضد الصليبين وكان من بين هؤلاء الذين شملهم العفو القائد بيبرس. قطز كذلك طلب من العالم الشهير العز بن عبد السلام إصدار فتوى ضمن حدود وضوابط يتمكن من خلالها جمع أموال وضرائب من سكان مصر بعد أن واجهته أزمة اقتصادية عجز من خلالها عن تجهيز الجيش. فتم له ذلك بمساندة ودعوة العز بن عبد السلام. وما إن انتهى قطز من الاستعدادات حتى سار بجيشه منطلقا من منطقة الصالحية شرق مصر حتى وصل إلى سهل عين جالوت الذي يقع تقريبا بين مدينة بيسان شمالا ومدينة نابلس جنوبا في فلسطين، وهناك تواجه جيش المماليك مع جيش المغول ويُعد جيش المماليك أكثر عددا من جيش المغول؛ وذلك لأن هولاكو اصطحب معه جيشا وهو راجع إلى منغوليا بعد وفاة الخان الأعظم منكو وظهور خلاف صاحب تعيين الخاقان أي الخان الأعظم للمغول. رجوع هولاكو يعتبر عند بعض المحللين أحد أسباب ضعف جيش المغول في مواجهة المماليك فحصل ذلك خلال المعركة، حينما تفرق جيش المغول وهرب بعضه باتجاه منطقه بيسان. عندها أكملت المعركة نتائجها بانتصار المماليك انتصارا عظيما وأُبيد كثير من جيش المغول. معركة عين جالوت كان لها أثر عظيم في تغيير موازين القوى المتصارعة في منطقة الشام؛ إذ تسببت خسارة المغول في المعركة في تحجيم قوتهم وانكماشهم في بلاد العرب والمسلمين رغم استمرار خططهم التوسعية باتجاه آسيا في الهند واليابان وبعض بلدان أوربا كالمجر وغيرها. الملك المظفر كما يُلقب سيف الدين قُطُز محمود يُعدّ بطل معركة عين جالوت وهازم التتار المغول فيها ومُحرر القدس منهم، بل يعده بعض المؤرخين أحد أبرز ملوك المماليك في مصر على الرغم من أن حكمه لم يدم سوى أقل من عام واحد. حيث نجح في إعادة تعبئة وتجميع الجيش لإيقاف زحف التتار إلى مصر بل استمر قُطُز بجيشه في عين جالوت ولاحق فلولهم حتى حرر الشام بأكملها من سلطتهم. إلا أن القدر مكتوب فحينما عاد قطز من عين جالوت إلى مصر وقع بمكيدة من بعض الأمراء المماليك الطامعين، وكان القائد بيبرس محسوبا معهم فقُتل قطز في موقع بين القرابي والصالحية حيث دفن هناك على أرض القصير بعدها بزمن نُقِل قبره إلى القاهرة وكان مقتله يوم السبت 16 ذو القعدة 658ه الموافق 22 أكتوبر 1260م. مقتل قطز تم بعد معركة عين جالوت بخمسين يوما حيث حكم قطز أحد عشر شهرا وسبعة عشر يوما فقط.لم يُكمل السنة تحقق فيها الإعداد المتقن للجيش والانتصار والنتائج والآثار التي أوقفت المدّ المغولي إلى مصر والشام وبذلك خلد التاريخ ذكر قطز. هنالك جدل تاريخي وشبهة في صلة بيبرس بمقتل قطز أو نفي بأن له يد فيها، خصوصا من يقولون إن سيرة بيبرس وأعماله لا تدل على نوايا مثل هذه .ولذا لا يقطع بترجيح التهمة عليه أو نفيها. بيبرس كذلك كان مملوك واعتق من قبل الملك نجم الدين أيوب وأصبح قائدا عسكريا شارك في عين جالوت ثم تولى الحكم بعد قطز ، إذ يعتبر الملك الرابع في سلالة حكام مماليك مصر. الشيخ العز بن عبد السلام قال بعد فقد وموت قطز بهذه السرعة وهو يبكى بشدة : "رحم الله شبابه لو عاش طويلًا لجدد للإسلام شبابه" ، وقال أيضا : "ما ولي أمر المسلمين بعد عمر بن عبد العزيز من يعادل قطز صلاحا وعدلا".