مرّ ما يقارب الشهر منذ أن ارتكب الإرهابي العنصري برينتون تارانت جريمته البشعة بقتل 50 إنساناً كانوا يؤدون صلاتهم في جامع النور بمدينة كرايست تشيرتش في نيوزيلندا، وتراجع الخبر من الصفحات الأولى وصدارة نشرات الأخبار ومحركات البحث إلى زوايا أقل أهمية، والمعلّقون وكتّاب الرأي عادوا إلى موضوعاتهم المختلفة الأخرى، والأنفس ربما لم تهدأ تماماً لكنها عادت لمواصلة حياتها الطبيعية. فهذه هي الطبيعة الإنسانية حينما تمر النوازل، فإن طالت فإن الناس يبدأون بالتكيف معها ويمارسون حياتهم، وإن مرت سريعاً فإنهم يعمدون أحياناً إلى تناسيها والعودة إلى التيار المعيشي الجارف، في تجسيد مستمر لغريزة البقاء. ومن الطبيعي أننا سنتذكر المجزرة البشعة في الأسابيع والأشهر المقبلة كلما جدّ جديد على مجريات محاكمة القاتل الإرهابي، وربما نتذكرها إن حدثت مجزرة مماثلة في مكان ما، ولسبب طائفي ديني أو عنصري، عندما يقوم مهووس آخر بعمل مشابه إما للانتقام لشهداء مسجد النور، أو مستلهماً «بطولة وشجاعة» تارانت كما استلهم هو فعله من مهووس آخر هو الإرهابي النرويجي أندريس بريفيك، الذي قتل 77 إنساناً في أوسلو عام 2011، ومن الأميركي الأبيض دايلان روف، الذي قتل خمسة أميركيين سود في كنيسة عام 2015. المشكلة الحقيقية أن هذا التذكّر لن يأتي في سياق تحليل أسباب ظواهر التطرف والكراهية المؤديين إلى العنف القاتل، ومن ثم البحث وبجدية باتجاه القضاء على هذه الظواهر وتجفيف منابعها، وإنما يأتي في سياق الوصف وفي أحيان في سياق التبرير، تماماً كما ظهر في تبرير النائب الأسترالي الذي أرجع الجريمة إلى تدفق المهاجرين ثم تلقى صفعة من شاب صغير على شكل بيضة فاسدة على رأسه وتلقى تقريعاً من زملائه في البرلمان الأسترالي. هذه الجريمة بالذات تحمل دلالات متناقضة، فالإرهابي القاتل هو أسترالي مقيم في نيوزيلندا ويصف نفسه بأنه أوروبي، وقد استخدم في جريمته رموزاً عنصرية عرقية عن تفوق العرق الأبيض، كما استخدم رموزاً تاريخية تشير إلى الصراع بين المسلمين ممثلين بالدولة العثمانية والمسيحيين الأوروبيين، كما استخدم مرجعيات صليبية ومسيحية متطرفة، وأشار إلى تأثره بإرهابيين أوروبيين. أما المدينة فاسمها كرايست تشيرتش (وتعني كنيسة المسيح)، ووجود جامع النور فيها إضافة إلى مساجد أخرى تشير إلى قدر كبير من التسامح لدى المجتمع النيوزيلندي المسيحي الأوروبي الأصل تجاه الأقليات المستوطنة عندهم، ومنهم المسلمون الذين قدموا إلى نيوزيلندا منذ عام 1840 مع الهنود الذين كانت بريطانيا تستعمر بلادهم، وهذا التسامح على الأرض الجديدة ظهر بالقدر الكبير من التعاطف والاستنكار اللذين أبداهما النيوزيلنديون حكومة وشعباً مع ضحايا الجريمة ومع المسلمين عموماً. ومن اللافت أن صحيفة «ذا ستار» التي تصدر في المدينة نشرت عام 1902 نعياً لرجل مسلم كان أسهم ببناء كاتدرائية المدينة بجلب الأحجار اللازمة للبناء من مقلع قريب. وجامع النور الذي بني بمساعدة سعودية في عهد الملك الراحل فهد بن عبد العزيز تحت إشراف رابطة العالم الإسلامي كما يروي الرحالة الشيخ محمد بن ناصر العبودي، الذي أشرف على إيصال المساعدات والبناء ثم افتتحه بنفسه، هذا الجامع شهد صراعاً حول إمامته بين مسلمي المدينة السنة والشيعة، ولم يحسم إلا أمام المحاكم النيوزيلندية. والعبرة الجلية من هذه الجريمة ومن دلالاتها المتناقضة، ليس فقط أن الإرهاب عابر لكل الديانات والأعراق فحسب، وإنما أن هذا الصراع أزلي قائم على نزعة التسلط لدى من يتصدون لقيادة المجتمعات فيستخدمون الأديان ووهم التفوق العنصري لحشد المؤيدين لتعزيز سلطاتهم، فالأديان – السماوية منها بالذات والإسلام في مقدمتها- قائمة على إقرار السلام بين البشر على اختلاف أعراقهم وطوائفهم، لكن المشكلة تبدأ حين تتحول التفسيرات والاجتهادات إلى نصوص قاطعة ولها صفة القداسة تستخدم ضد الآخر المختلف، كما أن هذا الآخر المختلف لا يحمل كرهاً متأصلاً فيه للآخرين، وإنما الشذوذ هو تأكيد لقاعدة التعايش الطبيعية بين البشر. لدينا نحن المسلمين تحول اجتهاد الأئمة الأربعة، مالك والشافعي وابن حنيفة وابن حنبل، في الفقه السني إلى عنصر اختلاف حاد، وصل في بعض الأحيان للاقتتال بين أتباع هذه المذاهب الفرعية، ولم يكن الأئمة المجتهدون أنفسهم ليقروا هذا الاختلاف ولا هذا الاقتتال، وحينما ظهر التشيع لآل البيت لأسباب سياسية بحتة تحوّل هذا الحراك إلى مذهب مختلف تماماً شق صف المسلمين، وتمت تغذيته عبر العصور بواسطة السياسيين والفقهاء المتسيسين. مثل هذا الحال الإسلامي موجود في كل الأديان الأخرى من دون استثناء، فتجدها لدى اليهود كما تجدها لدى المسيحيين بطوائفهم المتعددة واختلافاتهم الأصلية والفرعية التي قامت لأجلها حروب وأنشئت دول. احتكار الحقيقة، إلغاء الآخر، والكراهية ثم العنف سلسلة متصلة لا بد من قطعها وتفكيكها بقوانين صارمة دولية ومحلية في كل دولة تحارب خطاب الكراهية وتجتثه من جذوره. ابحثوا عن هذا المرض العضال حتى في بيوتكم.. فحتى الهلالي يعتقد أنه أنقى عرقاً من النصراوي. ويبدو أن: «الكره» في الأرض بعض من تخيلنا لو لم نجده عليها لاخترعناه. سلطان البازعي نقلاً عن (الحياة)