تتجلى لحظات السجود في الصلاة بكونها أشد أنواع الخضوع، حيث يتكور جسد الإنسان حول بعضه مشكلاً وضعه في الرحم قبل الولادة، ليجمع جسده وروحه ويحشرها في مساحة ضيقة، واهن القوى قليل الحيلة! ولحظة السجود عدا أنها وضع جسدي، إلا أنها حالة نفسية يلجأ لها الإنسان كلما شعر بالضعف، فيتضرع إلى ربه علها تنفتح له في لحظات السجود عوالم وآفاق، وتتوالد في روحه معانٍ راقية وأكوان رفيعة ودلالات سامية. والخضوع لله عزّ وجلّ والسجود له ليس قصراً على البشر، وإنما حين خلق الله الكون أودع فيه آيات ومخلوقات تدل على خضوعه وتسبيحه لخالقه تعالى. والإنسان الموحِّد السوي يبحث عن أي وسيلة تقربه لربه، وفي الحديث الشريف أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد). وفي رمضان، وفي المساجد بالذات حين تحين لحظات السجود الهادئة يبدأ ضجيج الأنفاس، وجلبة ابتهالات المصلين، وتضرعات أدعيتهم، كل يبث حاجته ويطلب مسألته مهما كان غنياً أو كبيراً أو متجبراً أو ظالماً، فما لدى الصغير المغلوب على أمره؟! وما عند المظلوم من دعوة لرفع مظلمته إلى من لا يردها أو يؤخرها لحكمة؟ وما هي مطالب الفقير والمديون والمهضوم؟ إنّ ضجيج السجود، ورتابة الدعاء، وخرير الدموع ونغمة التوسل المرسلة نحو السماء، تبث الرعب في قلوب الظلمة المتجبرين وتهدئ نفوس المثقلين بهمومهم المستشعرين قتامة ذنوبهم، فتشرق شمس الرجاء بالرحمة وتتبدد غيوم الكروب وتنجلي غمامة اليأس. سأل ربيعة بن كعب رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم مرافقته في الجنة، فقال عليه السلام (أعنّي على نفسكَ بكثرة السجود). ومن يطيل السجود ويستشعر عظمة الخالق، تسمو نفسه وتسبح في بحور النور، ويتلاشى منها الكبر ويتبدد الغرور كدخان في الفضاء. وهل أجمل من نفس لا تحمل كبراً ولا غروراً؟! هذا سرّ السجود!! (رقية سليمان الهويريني – الرياض)