نخلق المعارك الكلامية، ونزرع التشنج، ونسقيه بتسفيه المخالف. ثم نبحث عن أصول وآداب الحوار، ونحاضر طويلاً وكثيراً في الفعاليات الدينية والثقافية عن أهمية تربية الأجيال على احترام الآخر وتقبل الآراء المخالفة. ننتقد "المراهقين" حين يتعاركون ويترافسون في الشوارع أو الحدائق، ثم لا نقول كلمة واحدة عن صراعاتنا في وسائل خلقت للتواصل؛ إلا أننا حولناها إلى ساحات وميادين للعراك. حين ترى معاركنا الكلامية، تشعر أننا نبحث عن أي جنازة لنشبعها لطما.. وننتهز أي فرصة اختلاف للتخوين وإطلاق التهم على كل المخالفين ومؤيدي المخالفين، وأحيانا يأخذنا الحماس فنهاجم الساكتين عن الرأي المخالف حتى لو لم يكونوا مؤيدين له لكنهم يرونه معتبرا! نتطاحن من أجل "…."، ونخون مخالفينا ونسفه رأيهم، وكأن كلا الطرفين يقول: "رأيي صواب لا يحتمل الخطأ، ورأيكم خطأ لا يحتمل الصوب"، وقبل أن نفارق مجلسنا لا نخجل من ترديد عبارات تقبل الآخر واحترام الآراء المخالفة! لماذا يجب أن يكون لكل شخص فينا رأي في كل قضية محل نقاش؟ ولماذا يجب أن يكشف كل شخص توجهه من خلال الوقوف مع أحد الرأيين لنصنفه بعد ذلك "معنا أو معهم"؟ لماذا أدخلنا الدين والوطنية في كل قضايانا، فمخالفة ذلك الرأي مخالفة للدين، والاعتراض على ذاك الرأي تخل عن الوطنية؟ لماذا لا يسعنا الاختلاف ونترك كل نفس تتحمل نتيجة أعمالها وإيمانها، بدل أن نؤطرهم على رأيٍ واحد؟ نحارب كل من ينتقد، ولا نفكر هل ينتقد مستنداً على أدلة موثقة ورأي مقنع وتحليل معتبر؟ بل نحاربه لأنه "خالفنا" فقط، ثم بعد فترة من الزمن نكتشف أن أقوال ذاك المنتقد أصبحت واقعاً، وتلاشى كل الدفاع عن التي ضدها.. ولا يخجل المدافعون من ممارستها بأنفسهم الآن، ولا يتوانون عن محاربة كل مخالف جديد! الكاتبة كوثر الأربش تحارب المذهبية والتصنيف، وتقاتل لتصحيح بعض الممارسات المذهبية بالأدلة والحوار، وقد لقيت حربا بشعة ضد شخصها وليس ضد آرائها، فغردت قائلةً: "أين نذهب نحن الذين نرفض القولبة والتصنيف؟ ما بين ليبرالية مشوهة، وعلمانية قشرية، وإسلامية متناقضة؟ كلما فررنا من قالب أقحمونا في آخر.."! (بين قوسين) الحقيقة المؤلمة، أن كثيرا من المثقفين لا يتورعون عن تسفيه مخالفي آرائهم بالتعميم، وبقية الجماهير لا تتورع عن شتم من يصدمها برأي جديد دون التفكير بأدلته ومدى إقناعه.