مضى زمن .. منذ خبرت العطش الأول، منذ تحايلت على هجير الحر ووقرقرة الأمعاء الجائعة بالانغماس في بركة النخل إلى ترقوتي فقط، إذ حذرني الكبار من إفساد صومي لو تسلل الماء إلى جوفي عبر أذني حين ينغمر رأسي في الماء! مضى زمن.. منذ انتبهت إلى منازل الشمس أتعقبها، أتمنى لو كان بمقدوري دفعها أسرع صوب الغروب.. منذ اشتريت بالأربعة قروش التي منحني إياها أخي الأكبر، صمام هواء إطار شاحنة كان لا يزال في عنقه بقايا مطاط أسود، لكنه بدا نحاسياً، صقيلاً ، جميلاً بعد أن صليته بالنار ودعكته ب(ليفة حراق) و زودته بمقبض بكرة خيوط خشبية فارغة. مضى زمن منذ حشيته كبريتاً، و استخدمته مدفع إفطار صغير متنافساً وأقراني في من يكون وقع انفجار مدفعه أقوى متزامناً مع أذان الغروب حين يصدح به مؤذن المسجد الضرير. مضى زمن منذ لعقت أصبعي مقتفياً أثر دبس كرة اللقيمات الطازجة، بينما أخذت أصابع الكبار تخفق داخل صحن الهريس الساخن بلحم البقر و المشبّع بالدهن، وحباتُ رطب(الخنيزي) كالعقيق تتوزع على حصيرة دائرية من خوص النخلِ على محيطها ثلاث عروات عقصت على مسافات متساويةٍ بقدر تلك المسافات التي تفصل أجنحة مروحة السقف اللاهثة عن بعضها. مضى زمن.. يوم كان نشاطي يبلغ أوج ذبوله وجلاله وأنا مصطف مع اخوتي في الحجرة الكبيرة أقرأ نصيبي من ختمة القرآن و انفخ في إناء ماء وضع على مسافة واحدة منا جميعاً. مضى زمن.. يوم كان نشاطي يبلغ أوج ذبوله وجلاله وأنا مصطف مع اخوتي في الحجرة الكبيرة أقرأ نصيبي من ختمة القرآن و انفخ في إناء ماء وضع على مسافة واحدة منا جميعاً. مضى زمن منذ بكيت لأجبر جدتي على أن توقظني وقت السحر حال مرور (ابوطبيلة) بالفريج، وصدى قرعات عصاه المقوسة على جلد الطبل المشدود حد الرهافة، تملأ وأغنياته تجاويف الحارة التي تعافت من ضجيج صبية الفريج منذ الهزيع الأول من الليل. مضى زمن منذ أسندت ظهري لحائط مسجد الحي واقرأني ملتفون حولي يستعيدونني صورةً نسجتها من خيالي لبوطبيلة فحُلكت ليل الحارة المظلمة كانت دائما تتآزر و حُلّكت بشرته فتحرمني رؤيته بشكل واضح، ساعة ترفعني جدتي من إبطيّ لأطل من فوق الجدار. مضى زمن منذ رأيت جدتي في عمرها السبعيني تبكي أفول رمضان وصوت ( أبو طبيلة) يواصل إثخانها بوداعية رمضانية مردداً: الوداع.. الوداع.. الوداع يا رمضان عليك السلام يا شهر الصيام.. مضى زمن ..و ستمضي أزمان.. فالوقت هو الشيء الوحيد الذي لا يمكننا أن نوقفه. @attasaad1