إن وحدة الإنسان كقاعدة بقاء للأرض والمجتمع ظلت منهجية تعزز خطابها الفكرة الإنسانية المطلقة بل وتقعّد لها الشريعة السماوية وهي حالة ماثلة بقوة في الفكر الإسلامي الأصلي ومن تأمل ميثاق المدينة النبوية وهي أول وثيقة دستورية تؤصّل الاعتراف بالتنوع والاختلاف وتنظم العلاقة بين مجتمع الحكم ومجتمع الشراكة كمكونين أصليين في ذات الجغرافيا ولم يقف الأمر عند ذلك بل إنّ العديد من المواقف الإسلامية لمصدر التشريع وهو النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم كان يُعزّز ذلك المعتقد المركزي بصورة مستمرة ويعززه حتى في حالة صعود الانتقام من جهة الاعتداء التاريخي آنذاك في محور قريش وهي التي سجلت مقولة تاريخية في العلاقات الإنسانية التي يشرّعها الأنبياء – إذهبوا فأنتم الطلقاء - . ولم يكتف مصدر التشريع لتعزيز النص القرآني المقدس في قوله تعالى :- ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو اقرب للتقوى – بتلاوة النص لكنه كان يعززه صلى الله عليه وسلم في مسارات متعددة تؤكّد على حق المجتمع الشريك وتعزيز الجسور وتعويم المصالح المشتركة الاقتصادية وغيرها حتى في ظل أقصى درجات الاستعداد والمواجهة مع حالات الهجوم والاعتداء على المجتمع الإسلامي ويكفي أن نقف عند مدلولات إعلانه التاريخي صلى الله عليه وسلم في دعم مفاهيم حِلف الفضول التي أساسها العدل ونصرة المظلم حتى لو كان ذلك شراكة مع العدو الديني والسياسي , وأما ما ورد من محسبة فالأصل أنّها تعامل استثنائياً وفق سياق العقوبة المستحقة لمن نفذها فرديا أو تورط فيها فئويا بصورة جماعية تحاسب بالعدل في موضعها المحدد . لكنّها أبداً لا يُمكن أن تُلغي أصل الفلسفة الإسلامية الأصيلة والعميقة في تحقيق مبدأ الشراكة والعدل مع الحالة الإنسانية خارج رابطة الدين والوحدة العقائدية . إن أصل فكرة الاستخلاف تقوم في حقيقة فهمها على مبدأ الشراكة والتعاضد وليس على مبدأ التخاصم والتصفية لذلك جعل الله حق المحاسبة عن الفكر والعقيدة له هو ولم يسمح جلّ في علاه أن يوكَل هذا المضمون المتداخل مع علم الذات النفسية لصاحب الفكر والعقيدة وأين يقف بها في مسافتها الأخيرة وأين تنتهي به قبل الرحيل . نعم قد نظّم التشريع حسماً للفوضى المجتمعية وأعطاه الحق لإيقاف فوضى الخطاب التشكيكي الخارج عن إطارات المناظرات والمناقشات العلمية. ويكفي أن نقف عند مدلولات إعلانه التاريخي صلى الله عليه وسلم في دعم مفاهيم حِلف الفضول التي أساسها العدل ونصرة المظلوم حتى لو كان ذلك شراكة مع العدو الديني والسياسي ومن هذه الإنسانية ضمان الجدل السياسي والعلمي والمعارضة القولية ورفض التقوي بالسلطة لردعها وهي سيرة متواترة لا احسب أنّ هناك ما هو أقوى منها دليلاً بحيث إنّ العهد النبوي والراشد يفيض من مواقف وأحاديث النقاش في القرار السياسي بل والاجتهاد الديني بحيث يصعب إحصاء نماذجه من مناقشة الرسول الهادي الموحى إليه في الحديبية ومن طلبه قول الأنصار في غزوة بدر ومن حديثه معهم بعد حنين ومن نقاش الصحابة مع أبي بكر في قراراته الكبرى ومن اعتراضات الصحابة على عمر وردّهم عليه ولم يكن أبداً يعنفهم في خلافهم معه وإنما يشدد حين يشعر بمظلمة مورست على مواطني أمته مسلمين وغير مسلمين أو حين يشهد خرقاً مستفزاً للنظام الإسلامي العام وغير ذلك من المواقف وقس على ذلك الكثير . بالمجمل فإن العقد التعايشي أو الشراكة المبدئية في إدارة المجتمع كان ممارسة وأُفقا دستوريا يُنفّذ عمليا في العهد الراشد . فيما خص النبي بوصف الملك العاض لذلك التاريخ الذي عاش فقدان هذه الآفاق في مرحلة الانحطاط الأولى و حينها بدئت تتداخل بصورة متزايدة إشكاليات العلاقات على مستوى الجماعة الأممية والوطنية وتعزّز الانشقاق في محاور طائفية لعب فيها البعد السياسي دورا رئيسا . ولذلك سرعان ما تراجع هذا المجتمع صحيا حين أعادت فلسفة عمر بن عبد العزيز الشراكة والحرية والجسور ليس مع الداخل الأممي فقط بل وحتى مع شعوب وطوائف العالم الآخر وشهد العالم من جديد تحقيق خطاب الإنسانية الدينية كمنهج ذاتي قد فرض خطابه على العالم بحضارته العملية والفلسفية وليس تملقا لدعاية الأمم الأخرى... هنا سنجد أنّ اختلال العلاقة في الداخل الأممي كطوائف وجماعات وفي العلاقات خارجه لها قدر كبير من إسقاط تلك الجسور التي حين سقطت من الداخل واضطربت مع الخارج..حينها وحسب تداعت الأكلة على قصعتها .