عنوانٌ ضخم لواقع معقّد ومتداخل وأول خطأ في التحليل أننا نضيف عليه أسئلة تفصيلية ثم نُجيب دون أن نُعيد تفكيك المشهد ورصده واستعراض تاريخ انكساراته الثقافية ومن ثم نبني الأساس لتقييم الحالة وتصويبها والتصويب هنا ليس في يد المثقف فقط بل دوره محدود ما دامت مسارات الحراك ليست في قدرته . ولكننا سنجيب على هذه الأساسيات كإشارات تُحدد ولا تفصل ففي الأصل كان هناك خطاباً دينيا وأفضل أن أقول دينيا يطرح اجتهاده لرؤيته للفكر الإسلامي وان لم يوفق بل جاء معاكسا له في بعض المواضع , هذا الخطاب المتبلور كتيار بلا شك كان سائداً وله فرصة نفوذ واسعة كان لها تأثير ايجابي في قضية الحفاظ على القيم وضبط الشارع في بعض القضايا السلوكية التي انتشرت في الستينات وما أعقبها والتبشير بان الفكر الإسلامي يحمل مشروع إنقاذ شامل للحالة الوطنية والأممية , لكن هذا العنوان الضخم لم يكن يُترجم في اخص سمات الثقافة الإسلامية في تشريع العدل والمساواة والمجتمع المتضامن واعتبار الناس سواسية وتكريس سلوك الأخلاق في التعامل الإنساني مع المسلم وغيره وسلوك المعاملات . وتفاجأ المجتمع بان الحالة الدينية أضحت تكتلات تُزكي بعضها بعضاً في بعض حالاتها وتخلق من تجمعاتها مفارز للمطاوعة أو المتدينين أو الملتزمين أو سمّها ما شئت وهي تكتلات أشعرت قطاعات واسعة من المجتمع بأنها معزولة لأنها لا تنتمي لهذه المفارز رغم أنها مسلمة مؤمنة بل قد تكون في أحيان كثيرة أعلى تديناً من قطاعات واسعة من هذه المفارز إذا ما كان القياس بالمعنى الشامل لمفاهيم الإسلام في السلوك والفكر والثقافة والتضامن الأممي والإنساني . وأضحت اللحية والثوب القصير والسواك هي المعيار ولم تعد الغيبة والنميمة والبهتان وسوء الظن وسوء السلوك والخلق ذات تأثير في تقييم حالة المتدين خاصةً مع وجود قدرات هيمنة لهذه المجموعات التي كان كثيرٌ منها يمارس هذا السلوك وهذه الأخلاقيات والبرنامج الثقافي عن حسن نية وانه هذا هو الإسلام , وصُدم المجتمع من هذه الممارسات وشعر بالغبن الكبير ولكنّه سكت هيبة من الاتهام أو خشيةً ذاتية من انه يضع نفسه في وجه أقوام ينتسبون للدين وهي قضية خطيرة عنده بحكم عظمة المقدس الديني لدى الرأي العام السعودي , ورويداً تم تحجيم الخطاب الإسلامي السعودي وتركيزه في قضايا الصراع مع المذهبية السُنية للائمة الأربعة باعتبار أن تقليدها ضلال أو الهجوم على قضايا التوسل أو تسييد – قول سيدنا- سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم ومشروعية زيارته - وتم استدعاء مدارس التاريخ المذهبي داخل العالم السُنّي منذ القرن الثاني وجلدهم وإقامة معارك ضخمة طبعت فيها مئات آلاف النسخ للتحذير من هذه المعتقدات التي فيها خطأ يستدعي تثقيف موضوعي ومعرفي وفي غالبية فكرها أصيلة منتمية للمدرسة السنية الكبيرة . واختزل مشروع الإسلام – الحضاري – بل وهوجم هذا المصطلح رغم وجوده في خطاب الإحياء الإسلامي حتى نهاية السبعينات وهُمش الحديث عن قضايا العدل والحقوق والفقه الدستوري الإسلامي وثقافة التسامح وخطاب الوحدة وإنقاذ المرأة إسلاميا واحترامها كشريك كامل في التقييم لكن بحسب تفصيل الإسلام في مهمات الرجال والنساء لتحقيق فلسفة التناسل والوجود البشري وهو ما يختلف عن الرؤية العلمانية , وكان هناك مأزق لدى ثقافة هذا الخطاب في تبنٍ واضح لدعم تقدم الحالة الوطنية بحكم ضبابية الفهم وعدم القدرة على الجمع بين تحقيق التقدم والرعاية بالاعتراف للدولة الوطنية وانه لا يتعارض مصطلحا ولا سلوكاً مع مفهوم الأمة الواحدة الواجبة تضامناً واتحاداً في التشريع الإسلامي . ومع ذلك فكانت هناك جوانب ايجابية لديهم كتعزيز الاعتناء بمصادر التشريع وثقافة حفظ القرآن وروح التضامن مع قضايا الأمة العادلة كغزو الروس لأفغانستان وحرب البوسنة ومنعطفات قضية الصراع الإسلامي اليهودي في فلسطين وروح النجدة والتضامن مع قضايا المسلمين بغض النظر عن بعض الأخطاء التي صاحبت فعاليات التضامن , وكانت هناك محاولات لتصحيح مسار هذه الثقافة وإعادة الاعتبار لمفاهيم كبيرة وأصيلة من قضايا المشروع الإسلامي وأحكام السلوك الفردي التي تهدي للتعاون والتقدير والاحترام للمجتمع الإسلامي والإنساني ولكنها كانت ضعيفة ومصادرها من خارج الخطاب الديني الداخلي الذي لم يكن متحمساً لمثل هذا الطرح كل ذلك اختزن في ذاكرة المجتمع أو صحا كما هو جيل الشباب على مرحلة الانقلاب المجتمعي عليه في داخل المملكة والذي برزت معالم تحولاته في حرب الخليج الثانية التي شنتها الولاياتالمتحدة على العراق اثر غزوه للكويت , وما صاحبها من أول ظهور على المشهد الثقافي للتيارات الفكرية الأخرى الوطنية المتفقة مع مرجعية الإسلام الدستورية أو القومية واليسارية والليبرالية التي تحمل مجملاً فكراً علمانياً لكن ليس واحداً فيه المتطرف وفيه المعتدل المتفق مع كثير من فقه المقاصد للتشريع الإسلامي وفيه أيضاً من رأى تعانق فكره كلياً مع تقييم المشروع الغربي الأمريكي للحالة السعودية كمحمية دولية تحتاج إلى معالجة ثقافية ليبرالية وإعادة صياغة المجتمع من الجانب السلوكي وقصر القضية الحقوقية بحسب تقييم الثقافة الليبرالية لأحكام السلوك الشخصي وليس الحقوقي والتنموي على الأقل عند هذا الفريق الذي لا تعمم قناعاته على كل الحالة العلمانية فضلاً عن الجماعات الرافضة للخطاب الديني والمختلفة معه وسنعرض لهذه الأطياف وعلاقتها بالتحولات الفكرية لاحقا بإذن الله .