لهم وقت.. للعودة إلى منابعهم.. إلى معالم صباهم.. إلى جذور أجدادهم.. خرجوا مُجبرين.. شعارهم.. البحث عن حياة أفضل.. ثم يعودون.. كأنهم طيور مهاجرة.. يحلمون بالهجرة كضرورة.. يحلمون بالعودة كحنين.. هؤلاء هم السّفريّة.. المُسافرون بعيدا.. عن بيوتهم.. وطينهم.. وأهلهم.. وجماعتهم.. العائدون إليهم شوقا.. في أوقات معلومة.. يجددون اللقاء.. ثم يسافرون من جديد.. أصبح سفرهم مهنة.. وضرورة حياة.. ويظل السفر حرقة وألما.. يعصر النفس.. يعصف بالعواطف.. يفجر الحنين.. ويطلق منابع الشوق.. وتلك مقومات العودة.. إلى الأوطان.. وإن طال الزمن. كأفراد ننتمي إلى رفات أجدادنا.. نُحس بهم في عروقنا.. تمتزج ملامحهم بدمائنا ولحمنا ومشاعرنا.. نتشبع بكل حلقات الماضي.. تشدّنا حتى وإن ابتعدنا.. إذا ابتعدنا عنهم فنحن مسافرون.. المسافر نغمة عزفها الأجداد.. ويستمتع بها مكانهم الأزلي وأجياله.. في بعدنا نصبح نغمة لا يسمعها أحد.. لكننا نحترق بلوعتها داخلنا.. تغلي مراجلها لتدفع بنا قوة نحو أمل العودة. الحنين والشوق محور عودة السّفريّة.. الأمل والتطلعات طاقة العودة وغذاؤها المستمر.. للعودة قوة.. هيكلها الحب والشوق ولهفة اللقاء.. في الغربة تتجلى الصفات الانسانية المتعلقة بمكان جذور المُسافر.. كل فرد له مكان يحن إليه.. معالم يتلذذ بذكرياتها.. معالم لها في فؤاده حزمة من الركائز.. (ذكر.. وذكرى.. وتذكّر).. تدفع بصبره قدما للمزيد.. تمسح قسطا من عذاب فراقه.. هي بلسم لبعض جروح الغربة.. تعزز أمله بالعودة ولو بعد حين. في الغربة يتمتع السفري بلحن ثقافته.. لا يمحوها البعد والفراق.. لحن يشكل فخره اللغوي.. وعاداته المغروسة في النّفس.. يردد أهازيجها.. وأشعارها.. وحكمها.. وأقوالها.. ومفردات حُبّها وعواطفها.. يتغنى بطيف أحلامها ليلا ونهارا.. بهذا اللحن اللغوي يُعرّف نفسه لجميع من يقابله في سفره. تصبح هوية المُسافر لهجته ومشاعره المرتبطة بهذه اللهجة وثقافتها.. هكذا يصبح السّفري مكانا يمثل الجذور التي لا تتآكل.. لا تتهدم.. لا تنتهي.. لا تكذب.. تشد الجسم.. والشعور.. والعواطف.. تشدّه إلى ديار خرج منها.. وعندما تتحلّى بكل تلك الابعاد والصفات تصبح سفريا.. وعندما يصبح الجميع سفريّة فهذا يعني أشياء كثيرة.. منها قهر الأحمال في الديار.. وجورها على النفس والجسد. في قريتي سمعت هذا المصطلح.. كنت طفلا مهمته الملاحظة وتسجيلها.. وتنميتها في مساحة النمو التي أملكها.. لا يتوقف اتساعها وزحفها مع أيام العمر وسنينه.. في قريتي عشت هذا المُصطلح.. كان ومازال يرافقني منذ لحظات معرفتي الأولى بنفسي.. كنت اسمعهم في القرية يتحدثون عن السّفريّة.. ويتحدثون عن السّفري إذا كان فردا واحدا في ضميرهم. تصبح هوية المُسافر لهجته ومشاعره المرتبطة بهذه اللهجة وثقافتها.. هكذا يصبح السّفري مكانا يمثل الجذور التي لا تتآكل.. لا تتهدم.. لا تنتهي.. لا تكذب.. تشد الجسم.. والشعور.. والعواطف.. تشدّه إلى ديار خرج منها.. وعندما تتحلّى بكل تلك الابعاد والصفات تصبح سفريا من هو السّفري؟!.. لماذا أصبح سفريا؟!.. ما وظيفته؟!.. ما دوره؟!.. ما علاقته بالقرية وأهل القرية؟!. تلك أسئلة نمد اليها الأيادي.. للوقوف على أبعاد واقعنا اليوم.. وأحلامنا المستقبلية.. على الأقل لنعرف من نحن.. لنعرف معنى الانتماء.. معنى التعنصر والعنصرية.. ومعاني الشيمة والشرف والولاء.. ومعايير الجودة في مسيرة حياتنا.... لنعرف كيف تتغير الظروف.. كيف تتشكل القوالب البشرية سلوكا.. واتجاها.. ومعلومات.. وأفكارا.. ومهارات.. وعنها نسأل: من نكون؟!.. والى أين نحن ماضون؟! القرية التي خرج منها السّفري لا تزال قائمة بصور شتى.. خرج في أحد أيام المعاناة.. بحثا عن المستقبل الأفضل.. مستقبل لا يعلمه الا الله.. لكن يدرك أن هذا المستقبل هو الوعاء الذي سيصب نفسه ومصيره في قوالبه أيا كانت. في الأسفار فوائد.. ولكن إذا سافرت النعمة والخير.. وسافر بلسم الكرامة والعزّة.. عندها لابد أن تسافر للبحث عنها.. قد تعود بها.. وقد لا تعود.. وعندما تصبح أحد ضحايا ضياعها.. نقول: لماذا السّفر؟!.. وإلى أي الدّيار تسافر؟!.. وقتها لا يهم الجواب.. وقتها تردد: لابد منها وإن طال السفر. السفر أحد أنواع الهروب من شبح المعاناة أيا كان شكلها.. وهويتها.. ولونها.. وطعمها.. هل المصير أن تتمسك بأرضك وسماك في ظلها؟!.. هل تصبح وظيفتك انتظار أن تنجلي؟!.. هل يعني هذا انتظار الموت؟!.. نعرف أن الكل في طريق الموت ماض.. لكن أن تموت بكرامة أفضل من الموت بدونها.. حتى الموت كرامة تحمل معاني الحياة.. أن تصبح أحد مكونات رفات الأجداد فتلك مسألة مهمة.. حتى الرفات يحمل هوية وبصمة.. رفات العظماء تحمل في طياتها العطاء.. وتشكل حاجز الصد الأول ضد عوامل التهدم والاندثار. العظماء لا يموتون لكنهم مسافرون.. لا نراهم.. عطاؤهم يصل.. ممدهم لا يتوقف.. كنتيجة كل فرد يبحث عن هذه الوصفة عن طريق الأسفار.. خاصة في زمن القحط وندرة العطاء.. ويستمر الحديث بعنوان آخر. twitter@DrAlghamdiMH - [email protected]