قد يخيّل إليك ان مقابلة رجل أعمال عالمي مثل كارلوس غصن، يرأس شركتين كبيرتين للسيارات هما رينو ونيسان، ستكون ثقيلة الظلّ مشبعة بالأرقام والجداول، خصوصاً أنك لن تجد في بحثك الإلكتروني والأرشيفي عنه كلمة واحدة خارج إطار سيرته المهنية. لكن الواقع يفاجئك برجل نحيل، مربوع القامة، بعينين متقدتين ذكاءً. لا تفارق الابتسامة وجهه. تشغله التفاصيل الإنسانية المحيطة بالحوار الذي رغب خلاله، ولمرّة أولى واستثنائية، في أن «يكسر جليد» تحفّظه عن حياته الشخصية والعائلية، ويفتح قلبه ويتحدّث بصراحة، وبلهجة لبنانية لا تشوبها شائبة، مجيباً عن أسئلتنا حول فنجان قهوة في فندق بيروتي أنيق. من هو كارلوس غصن رجل الأعمال ذو النجاح العالمي؟ - كارلوس غصن هو رجل أعمال كرّس معظم حياته المهنية لخدمة صناعة السيارات، وذلك انطلاقاً من شغفه بالسيارات نفسها وبتصاميمها وتقنياتها. والواقع أنني أعشق أن أكون محاطاً بالعاملين في هذا المجال لأنهم أشخاص يحرّكهم شغفهم الكبير بكلّ تفصيل فيه. هناك الكثير من الحلم في مجال صناعة السيارات. فنحن عندما نصنّع سيارة نأخذ في الاعتبار تفاصيل الحلم الذي نحقّقه للشخص الذي سيشتريها. شراء سيارة لا يشبه على الإطلاق شراء ثلاجة أو ماكينة خياطة. نحن نشتري السيارة التي تحقّق أحلامنا وتعكس شخصيتنا وترافقنا فترة طويلة مثلها مثل أي فرد من أفراد العائلة. أحبّ هذا القطاع وقد كرّست، كما قلت سابقاً، حياتي المهنية كلّها لخدمته، وآمل أن أكون قد أضفتُ بصمة خاصة إليه. ماذا عن كارلوس غصن الإنسان؟ - وُلدت في البرازيل لوالدين لبنانيين. وتابعتُ دراستي في لبنان الذي هو موطني الأم، أحمل قيمه وتقاليده أينما حللت. ولديّ فيه أصدقاء وأقارب كثر. وقد سنحت لي الفرصة أن أعيش في دول وحضارات مختلفة، من البرازيل ولبنان، إلى فرنساواليابان مروراً بأميركا، وأختلط بجنسيات عدّة، وهو ما عمّق انتمائي إلى جذوري اللبنانية. عشتَ في دول مختلفة وتعاملت مع جنسيات متعدّدة. العولمة هي شيء يشبهك... لكن ما هو الانتماء بالنسبة إليك؟ وهل تجاهر دائماً، بجذورك اللبنانية في المجتمعات المختلفة التي تُقيم فيها؟ - يعتقد البعض أن العيش في مجتمعات مختلفة يؤدي إلى الانصهار فيها وضياع الهوية. ولكن على العكس، كان ذلك مصدر قوّة لي، ساهم في تأكيد هويتي اللبنانية وتعزيزها أكثر. طبعاً أجاهر بجذوري اللبنانية وأنا فخور بها. مع ذلك اسمحي لي ألا أحكم على الذين ينكرون جذورهم. بماذا تحتفظ من جذورك اللبنانية والدم اللبناني الذي يجري في عروقك؟ - أنا لبنانيّ يُقدّس القيم العائلية. متزوّج من لبنانية ولديّ أربعة أولاد، ثلاث فتيات وولد في مقتبل العمر. وأخصّص الكثير من الوقت لعائلتي وأولادي. التعليم لي أساسيّ، شأني شأن أي لبنانيّ آخر. وأحترم اختلاف الآخر لأننا في لبنان ترعرعنا في موزاييك طائفيّ جميل، فلم يكن غريباً عليّ أن أقيم في مجتمعات متعدّدة الجنسيات والأعراق والأديان والطوائف. كذلك أحتفظ بعلاقات وثيقة مع أصدقاء الصبا ومع عائلة زوجتي التي تُقيم في لبنان. تتحدّث اللهجة اللبنانية كأيّ لبناني أمضى كلّ حياته في لبنان، فهل تجيد أيضاً الكتابة والقراءة باللغة العربية؟ - اللهجة اللبنانية لهجتي الأم، فكيف لا أُتقنها؟! (يبتسم) أُجيد اللغة العربية كتابة وقراءة ولكنني لا أدّعي الفصاحة! تزور لبنان سائحاً، أم مواطناً مغترباً يحنّ إلى العودة، أم مستثمراً؟ - أزوره كلبنانيّ اشتاق الى أصدقاء طفولته وعائلته الكبيرة. وكمواطن لبناني، أستغلّ فرص الاستثمار في وطني الأم. لكن هذه الفرص ليست السبب الرئيس وراء زياراتي المتكرّرة الى لبنان، بل الشوق والحنين إلى وطني والأهل. ماذا تذكر عن طفولتك ومقاعد الدراسة في لبنان؟ - معظم ذكرياتي تتركّز حول مقاعد الدراسة في مدرسة «سيدة الجمهور» في جبل لبنان. أحتفظ بذكريات كثيرة من تلك الحقبة، من زملاء الدراسة إلى الأساتذة الذين رافقوني في الطريق الجبلي الأخضر النضر الذي كنّا نقطعه يومياً للوصول الى المدرسة... أعشق الطرق الجبلية وهواء الجبل. من أيّ منطقة لبنانية أنتَ، وهل تملك منزلاً فيها؟ - أنا كسروانيّ من بلدة عجلتون، وأمي من بلدة مزيارة الشمالية. أما زوجتي فهي من بلدة ريفون. لكن عائلتي لا تملك منزلاً في بلدتها الأم عجلتون، فاشتريت منزلاً في بعبدات لأنني أحب الجبل اللبناني. في المقابل، تملك زوجتي منزلاً قديماً في عجلتون وقطعة أرض، وشقّة سكنية في بيروت. لا نعرف شيئاً يُذكر عن والديك، من هما وكيف أثّرا في حياتك ليصنعا منك هذا الرجل العظيم الذي أنت عليه اليوم؟ - جدي لوالدي هاجر إلى البرازيل وأسّس عملاً وعائلة له هناك. أما جدي لأمي فقد هاجر إلى نيجيريا حيث استقرّ وعائلته هناك. وقد شاءت الصدف أن يتعارف والدي ووالدتي ذات صيف في لبنان، شأنهما شأن كلّ مغترب يعود الى لبنان في فصل الصيف، فتزوّجا وسافرا للعيش في البرازيل حيث وُلدتُ وشقيقاتي الثلاث. كان والدي رحمه الله، يعمل في مجال التجارة، وأمي ربّة منزل تهتمّ بشؤون عائلتها. وهي لا تزال تعيش في البرازيل مع شقيقتيّ المقيمتين هناك مع عائلتيهما، وتزور بين الحين والآخر شقيقتي المقيمة في فرنسا مع زوجها وأولادها. لقد كان والداي صارمين في ما يتعلق بتربيتنا وتعليمنا، وهو ما دفعنا إلى تحمل المسؤوليات باكراً. وهما من زرعا فينا القيم العائلية اللبنانية الأصيلة التي تُقدّس العائلة وتضعها في المرتبة الأولى قبل أي شيء آخر. وقد أخذتُ عنهما تكريس الوقت اللازم لتربية أولادي والسهر على تعليمهم ومشاركتهم همومهم وآمالهم وأحلامهم. وتعلّمتُ أن أجتهد لأجد وقتاً لعائلتي، لا أن أنتظر كي يتوافر وقت لها. وأحرصُ على أن أعير أولادي كل انتباهي عندما أكون معهم، فلا أقرأ جريدة ولا أجلس إلى الكومبيوتر، ولا أردّ على بريدي، بل أتفرّغ كلياً لمجالستهم والاستماع إليهم. هل كانت صدفة أن تتزوج من لبنانية أم قصدت ذلك؟ وكيف تمّ النصيب؟ - هذه أمور لا يمكن أن نتقصّدها، بل تأتي في شكل عفويّ. إلتقيتُ زوجتي ريتا في فرنسا حيث كانت تتابع دراستها، أثناء زيارتي لمنزل أختها المتزوّجة من صديق لي، فكانت الشرارة الأولى التي أدّت في ما بعد إلى الزواج. زوجتك ريتا ربّة منزل. أين تُفضّل أن تكون المرأة: في البيت أم في العمل؟ - أنا أحبّ العائلة الكبيرة، وقد كان شرطي الأساس أن تتفرّغ ريتا لتربية أولادنا، لأن تربية أربعة أولاد هي بالنسبة إليّ عمل شاق بدوام كامل لا يمكن المرأة أن توفّق بينه وبين عملها خارج المنزل. وقد وافقت ريتا على وجهة نظري هذه، وتخلّت عن العمل في اختصاصها الجامعي وهو الصيدلة. وأقدّر كلّ التقدير التضحية التي قامت بها ريتا من أجل عائلتنا. كما أقدّر مساهمات النساء في مجالات العمل المختلفة. أعتقد ان هناك دائماً خيارات وتضحيات يجب أن تقوم بها المرأة العاملة المتزوّجة. نحن نطلب من المرأة الكثير عندما نوكل إليها مهمّات تربية عائلة كبيرة والعمل خارج المنزل. وانطلاقاً من اقتناعاتي هذه شجّعت زوجتي على الاهتمام بالعائلة، والتخلّي عن العمل خارج المنزل. أولادك الأربعة كبروا في الغربة، بين فرنسا وأميركا، أيّ مستقبل أعددت لهم؟ وماذا عن ارتباطهم بلبنان؟ - بناتي الثلاث وإبني يعرفون تماماً أنهم لبنانيون أصيلون لجهة الأم والأب، أياً كان مكان ولادتهم، أو مقرّهم الحالي، أو الجنسيات التي يحملونها. وهم يعودون باستمرار إلى لبنان لزيارة موطنهم الأم، ويطرحون عليّ وعلى والدتهم أسئلة حول الحرب اللبنانية وأسبابها ويردّدون: لماذا لا يهتمّ اللبنانيون بوطنهم كما يفعل الآخرون؟ فهم عاجزون عن فَهم مشاكل كثيرة تُعكّر صفو الحياة في لبنان، مثل انقطاع الكهرباء المستمرّّ وغياب تطبيق أنظمة السير المتعارف عليها عالمياً والطرق المحفّرة وغيرها. ويصعب عليّ وعلى والدتهم أن نشرح لهم حقيقة الوضع اللبناني. هل وجّهتَ أولادك أيضاً إلى قطاع الأعمال؟ - لا أحبّ أن أمارس ضغوطاً على أولادي، كل ما نصحتهم به هو أن يختاروا المجال الذي يريدون ويكرّسوا كل الوقت والجهد للنجاح فيه. إبنتي البكر تحمل شهادة من جامعة ستانفورد الأميركية وتعمل حالياً في شركة ماكينزي للاستشارات، وهي واحدة من كبرى شركات الاستشارات في أميركا. إبنتي الثانية تدرس الاقتصاد، والثالثة تدرس الهندسة المعمارية، أما إبني فلا يزال على مقاعد المدرسة. هل ترغب في أن تُقدم شيئاً لوطنك الأم؟ - أنا عضو في مجلس أمناء الجامعة الأميركية في بيروت وعضو أيضاً في مجلس الاستشارات الإستراتيجية في جامعة القديس يوسف. أحاول بمقدار ما يسمح لي وقتي، أن أدعم التعليم في لبنان، خصوصاً انني من كبار المؤمنين به. لكن وقتي الضيّق وأسفاري الكثيرة تحول دون تنفيذي كلّ أفكاري وما أحلم به للبنان. نجاح بعد فشل لقد صار النجاح رفيقك منذ وقت طويل. ولكن ماذا تعرف عن الفشل؟ هل تذوّقت طعمه؟ - طبعاً تذوّقت طعم الفشل. فالفشل هو في أساس النجاح. الطفل يتعلّم مستخدماً الممحاة أكثر من استخدامه قلم الرصاص. في الحياة العملية، الفشل أصل النجاح، وهو بداية الطريق وليس آخرها. ما علينا سوى أن نفهم الأسباب التي أدّت إلى فشلنا لنتغلّب عليه وننجح. نجاحك في عالم إدارة شركات ميشلين Michelin ورينو Renault ونيسان Nissan، هل مردّه غرام قديم بالسيارات؟ وما هي أول سيارة قدتها؟ - شغفي بالسيارات يعود إلى أيام طفولتي في بيروت، كنتُ بعد طفلاً عندما بدأت أتعرّف الى نوع السيارة من زمّورها. أما أول سيارة اشتريتها فلم تكن في الواقع السيارة التي حلمت بها، بل السيارة التي استطعت شراءها طالباً! (يضحك) كانت سيارة فيات Fiat قديمة مستعملة سبّبت لي الكثير من المشاكل بسبب أعطالها المستمرّة! هل تقود سيارتك بنفسك اليوم؟ - في عطلة الأسبوع أستغني عن خدمات سائق المكتب لأستمتع بقيادة سيارتي أو السيارة الجديدة التي ستطلقها الشركة، بغية تجربتها ومعرفة نقاط ضعفها. كذلك أقود السيارات المنافسة للتعرّف إليها عن كثب، ولا أكتفي بتقارير مهندسي الشركة عنها. ما هي السيارات التي تملكها؟ - في باريس، أقود سيارة لاغونا كوب Laguna Coupe من رينو Renault، وأملك السيارة الرياضية GTR من نيسان Nissan. وأستقلّ إلى عملي سيارة رينو فيلساديس Renault Velsatis. أما في اليابان، فأستقلّ سيارة President من نيسان Nissan للذهاب يومياً إلى العمل وسيارة Convertible 370Z لنزهاتي الخاصة. هل هناك سيارة أنتجتها شركة منافسة تشتهي أن تمتلكها؟ - طبعاً، فالمنافسون يقدّمون سيارات جذّابة أيضاً، وعلينا أن نعترف بذلك. ففي اعترافنا السبيل إلى إنتاج سيارات أكثر جاذبية وقوّة. كخبير في السيارات، بماذا تنصح الرجل أو المرأة التي تنوي شراء سيارة جديدة؟ - على المرء أن يحدّد أولوياته قبل شراء سيارة جديدة. ما الأهمّ بالنسبة إليه: الشكل أم قوّة المحرّك أم الأمان، الخ؟ معروف ان الرجل يبحث عن قوّة المحرّك والتعقيدات الميكانيكية في السيارة التي يختارها في العادة، من علامة تجارية يوليها كلّ ثقته. أما المرأة فيهمّها في السيارة التصميم الجميل والعملي والأمان، خصوصاً إذا كانت أماً. وهذا ما نأخذه في الاعتبار لدى تصميمنا سيارة جديدة، فنحاول أن نوفّق بين تطلّعات المرأة والرجل في آن واحد. إذ ليس هناك سيارة خاصة بالنساء، وأخرى خاصة بالرجال. قرار شراء سيارة جديدة يتّخذه الرجل والمرأة معاً، سواء كانا متزوّجين أم صديقين أم أفراد عائلة واحدة. «لا تصدق ما أقوله، صدق ما أفعله» تقول في مقابلة سابقة: «شعرتُ دائماً بأنني مختلف. وعندما تكون مختلفاً، تحاول أن تتأقلم مع البيئة الموجود فيها وتحاول أن تفهمها أكثر. وهذا ينمّي لديك القدرة على الاستماع والمراقبة والمقارنة، وهي مزايا تفيدك في المهمّات الإدارية». يبدو أن المجتمعات التي عشت فيها، عاملتك على أنك مختلف، فكان ردّك بالتفوّق... هل هذا صحيح؟ - لطالما شعرتُ بالاختلاف: طفلاً في البرازيل كنتُ مختلفاً عن أترابي بجذوري اللبنانية. وفي لبنان، كنت مختلفاً أيضاً بسبب جنسيتي البرازيلية. وقد لازمني الاختلاف في كل المجتمعات التي ترعرعتُ ودرستُ وعملتُ فيها، وهو ما ولّد لديّ شعوراً بالحاجة إلى تأكيد أهليتي للفرص التي أتيحت لي، فيعترف الآخرون بقدراتي. الاختلاف أياً كان، وأعني هنا أن يكون المرء إمرأة عاملة في مجتمع ذكوري، أو رجلاً أسود في مجتمع أبيض، أو عربياً في مجتمع غربي أو العكس، يولّد لديك الرغبة في القيام بجهد إضافي للتميّز والنجاح. المختلفون في العادة يواجهون التحدّيات بسهولة أكبر، لأنهم معتادون أكثر على مواجهة دائمة لإثبات أنفسهم والتميّز عن الآخرين. بعد حادثة 11 أيلول (سبتمبر)، هل شعرتَ بخجل كونك عربياً؟ وهل ما زلتَ تجاهر بجذورك العربية؟ - كلا. لم أفكّر بالأمر من هذا المنطلق. فالذين اقترفوا ما اقترفوه وحدهم يتحمّلون مسؤولية فعلتهم. دعيني أعيد طرح السؤال بطريقة أخرى: هل أشعر بخجل من كون الإرهابيين الذين فجّروا البرجين كلّهم رجالاً؟ ليس كلّ الرجال مسؤولين عن حادثة 11 أيلول، ولا كلّ العرب. لطالما جاهرتُ، وأجاهر بجذوري العربية. لكن صورة العربي في الغرب باتت موصومة بالإرهاب والهمجية، شئنا أم أبينا. فهل في استطاعة نماذج عربية عرفت نجاحاً عالمياً مثل كارلوس غصن تغيير هذه الصورة؟ - لا شكّ في أن العرب الناجحين عالمياً من رجال أعمال وكتّاب ومفكّرين وفنانين ومصمّمي أزياء وغيرهم، قادرون على تغيير نظرة الغرب الدونية الى العطاءات العربية. لكنني أعتقد أن المشكلة فينا، قبل أن تكون في نظرة الغرب إلينا. فعالمنا العربي لا يحتفي بالنماذج الناجحة من أبنائه كما يجب، ولا يفتخر بها، ولا يعزّز انتماءه إليها، ولا يسلّط الضوء عليها كما يفعل الغرب حيث تتنافس الحكومات على إبراز كبار مفكّريها وكتّابها ورجال أعمالها. وهذا مؤسف حقاً. ترفض الحديث في السياسة، لماذا؟ هل تحتقرها؟ هل تخيفك؟ - إنه خيار شخصي، نابع من اقتناعي باحترام خصوصيتي. فالخصوصية لي هي أمر مقدّس، ونحن نعلم أن حياة السياسيين تحت المجهر، ملك للعامة. شخصياً، أقدّر حياتي الشخصية والعائلية ولست مهتمّاً على الإطلاق باستباحتها للعامة. «لا تصدق ما أقوله، صدق ما أفعله»، هذا ما قلتَه يوماً عندما سُئلت عن أفضل الطرق لتعلّم فنّ الإدارة. لكنّ هذا هو عكس ما يفعله السياسيون في العادة، ألهذا السبب لا تتّفق مع السياسة؟ - ليس أفضل رجال الأعمال أولئك الذين كتبوا أفضل الكتب عن إدارة الأعمال، بل الذين اتّخذوا أفضل القرارات في الأوقات المناسبة. صحيح أنني كتبت كتاباً عن تجربتي في نيسان، لكنني لم أكتبه لأضيف المزيد من النظريات في مجال الأعمال، بل لأؤرّخ مرحلة إعادة إحياء شركة رئيسة في الاقتصاد الياباني باتت جزءاً من تراث هذا البلد الصناعي الأول. لست منظّراً جيّداً في مجال الأعمال بقدر ما أنا إداريّ فاعل. وأقدّر كلّ الذين ينتجون بفاعلية، بعيداً من النظريات... لديك ألقاب كثيرة، أذكر منها: الباخرة محطّمة الجليد Icebreaker، السيد أصلحْه Mr Fix It، المدمّر The Destroyer، قاتل التكاليف Cost Killer وغيرها... هل تعرفها كلها، وما هو اللقب الأحب إلى قلبك؟ - لديّ أكثر من 20 لقباً، لكن لقب محطّم الجليد Icebreaker كان الأكثر تميّزاً بالنسبة إليّ، فهو يعبّر عمّا فعلته في شركة نيسان، إذ كسرتُ الكثير من التقاليد والممنوعات في الاقتصاد الياباني، فاتحاً الطريق أمام الآخرين ليحذوا حذوي، وهي مهمّة الباخرة المكسّرة للجليد في القطب الشمالي التي تشقّ الطريق أمام السفن الأخرى. في الأزمة العالمية الاقتصادية سقطت شركات سيارات أميركية كبرى. كيف أعددت العُدّة في رينو ونيسان لمواجهة الأزمة بأقلّ أضرار مُمكنة؟ وماذا ستكون تأثيرات هذه الأزمة في المدى القريب؟ - برأيي ان الأزمة الاقتصادية هي مزيج من أزمة مالية وأخرى اقتصادية. الأزمة المالية صارت وراءنا، يبقى ان نجتاز الأزمة الاقتصادية فتتحرّك الأسواق والاقتصادات المختلفة وتعود الثقة الى المستثمرين والمستهلكين. لا شكّ في ان بعض الشركات ذات المنتجات غير المنافسة لجهة النوعية والتقنية والإدارة، ما زالت في دائرة الخطر. ولحسن الحظّ، هذه ليست حال رينو ونيسان! (يبتسم). مؤتمر كوبنهاغن يدقّ ناقوس الخطر بيئياً، كيف تُساهم شركتا رينو ونيسان، وهما تصنعان سيارات ملوّثة، في المحافظة على البيئة؟ - تبثّ السيارات 12 في المئة من مجمل كمّية ثاني أوكسيد الكربون الملوّثة عالمياً، وتستهلك 25 في المئة من إنتاج البترول في العالم، بمعنى اننا كقطاع، جزء من المشكلة، وعلينا إيجاد الحلول لها. لذا نطلق في العام 2010 ثماني سيارات جديدة بمحرّك وميكانيك كهربائيين، أربعة من نيسان وأربعة من رينو. وبأسعار في متناول الجميع. تقول انك عاشق للسيارات. كرجل أعمال، إذا عُرضت عليك إدارة شركة للإلكترونيات أو إنقاذ دار مثل كريستيان لاكروا Christian La Croix هل توافق؟ وكيف تغيّر مقاربتك للعمل؟ - أعتقد أنكِ إذا أردتِ أن تنجحي في الأعمال، عليكِ أن تختاري المجال الذي تعشقين. كلّ الناجحين في مجال معيّن، ناجحون بقوة الشغف الذي يحرّكهم. شخصياً، أعشق السيارات وعالمها. لا أجد نفسي في الإلكترونيات ولا في مجال تصميم الأزياء، لذا لا أعتقد انه يمكنني أن أقوم بعمل خارج قطاع السيارات، وأحقّق نجاحاً كاسحاً فيه. خارج العمل، كيف تُمضي أوقات فراغك؟ ماذا تهوى؟ وما هي ملذّاتك الصغيرة؟ - أمضي أوقات فراغي مع أولادي. في باريس، أقوم بتماريني الرياضية المفضّلة مع إبني، أصطحبه الى السينما والمكتبات لشراء آخر الإصدارات، والى المطاعم لنمضي وقتاً جميلاً معاً. وهذا ما أفعله أيضاً عندما أسافر الى أميركا لزيارة بناتي. لذّتي أجدها في القراءة، أقرأ كثيراً أثناء سفري، خصوصاً انني أمضي ساعات طويلة في الطائرة بين اليابانوفرنسا وأميركا... أخيراً، ما هي فلسفتك الخاصة للنجاح؟ - أياً كنتَ ومهما فعلت، إفعله من صميم قلبك، صُبّ ذاتك فيه، أبذل كلّ جهد في سبيله، خصّص له كلّ الوقت اللازم، وستنجح. * سيرة في سطور ولد كارلوس غصن في التاسع من آذار (مارس) 1954 في البرازيل لوالدين لبنانيين مهاجرين. تابع دراسته في لبنان في مدرسة سيدة الجمهور، قبل أن ينتقل الى فرنسا ليتخصّص في معهد Ecole Polytechnique ويتخرّج مهندساً من معهد Ecole des Mines. عمل في شركة Michelins Ladoux الفرنسية للإطارات مدّة 18 سنة، وتبوأ مناصب إدارية عدّة بينها رئيس قسم الأبحاث والتطوير، وتولّى مهمّة إعادة هيكلة الشركة في أميركا الشمالية. في تشرين الأول (أكتوبر) 1996، انتقل غصن للعمل في شركة رينو Renault الفرنسية للسيارات، وعيّن نائب رئيس تنفيذي فيها، قبل أن يصبح رئيس الشركة عام 2005. انتدبته شركة رينو التي اشترت شركة نيسان اليابانية للسيارات ليكون مدير العمليات في الثانية عام 1999، قبل أن يصبح رئيس نيسان عام 2000. وقد نجح غصن في نيسان محوّلاً إياها من شركة خاسرة، بلغت ديونها 20 ملياراً الى شركة رابحة، وذلك عبر تنفيذ خطوات جريئة كسرت التقاليد اليابانية ولا سيّما مفهوم الأمان الوظيفي بحيث لم يتوان عن تسريح الكثير من العمّال والموظفين. وقد جعله ذلك شخصية معروفة في اليابان. ودوّن غصن تجربته هذه في كتاب عنوانه: «النقلة: داخل نهضة نيسان التاريخية» Shift: Nissan s Historic Revival * أجريت المقابلة للمجلة الشقيقة «لها» التي تنشرها هذا الأسبوع