ليس للسندباد مرفأ يرسو فيه ليستقرّ، ولا له وجهة محدّدة يقصد إليها دون غيرها. إنّ ما يطبع جهاته المتعدّدة هو الرغبة المستمرّة في الرحيل والبحث المتواصل عن الآفاق البديلة. إنّه حين خّرج من موطنه الأصلي أراد وطنا لا متناهيا غير خاضع لأي حدّ أو حيّز، وطنا إنسانياً وشموليا قد يكون أرضا أو ماء أو شجرا، ولكنّه يظلّ في كلّ تحديد دلاليّ خارج التحديد. أنّه الفضاء الكليّ الذي تتفاعل الذات الإبداعية مع كلّ مظهر من مظاهر المجسدة والتجريدية، فترحل إلى كلّ الجهات كي تتجاوز الجهة، وتستقّر بكل المحطّات كي تعبر المحطة. ولذلك فإنّ الإبداع الفنّي في اقصى درجاته إبداع يعدّد امكنته ويضاعفها، ثمّ يعمد الى عدم تحديد ملامحها الجزئية والدقيقة، إبداع يجعل من الذات المتفاعلة بمظاهر الكون ذاتا إنسانية تتسم بشساعة مجال التفاعل ولا نهائية. في قصيدة سندباد إبحار لا متناه وشراع لا يعرف طريقه، ثمّ غربة وجودية رهيبة ومضاعفة داخل غربة تعيشها الذات في علاقتها بالأمكنة. - تهت في الإبحار يا قلبي طويلا وشراعي أخطأ الأفق البديلا - كلّما ضجّ اشتياقي هزّت الغُر به وجداني التياعاً وذُهولا تهت: + فعل + رحلة + غير محددة إبحار: + مصدر + حركة + في الماء + غير محددة شراع: + اسم + أدة + للتنقل + في البحر أخطأ: + فعل + خطأ + ضياع + هدف أفق بديل: + اسم + هدف + وجهة مغايرة + غير محددة فلعلنا نلاحظ ان السمة الدلالية الحاضرة بقوة في مجمل وحدات التركيب هي اللاتحديد، أي أن الذات تائهة من بحر الى بحر، لزمن طويل، شراعها اخطأ طريقه الى الافق، وهو يبحث باستمرار عن بديل للأفق الذي تركه. إنها رحلة التعب والمعاناة المطبوعة باللانهائية، كما هو الأمر بالنسبة للسندباد تماما، وقد اتخذ هذه المرة إهاب شاعر ملتاع بالغربة ومتعطش الى العودة. ذلك هو فضاء عبدالعزيز محيي الدين خوجة المطبوع بالكثافة، والتعدد، والشساعة، واللانهاية. 1 - مستوى الكثافة انه دون مستوى الكثافة لا يمكننا ان نؤسس فضاء فنيا يتميز بامتداد تخيلي يقابل المكان الواقعي الذي يحدد حياتنا اليومية، ويترتب عن مسألة الكثافة هاته أن المكان الذي تتفاعل معه الذات باعتباره منطلقا اساسيا وجوهريا لهذا التفاعل، ليس سوى نقطة مركزية تحدد ملامح أولية وجزئية للتخيل الذي تبدعه الذات بإزاء الأمكنة، وبازاء الفضاء الذي تشيده من صميم التخيل. ان الوجود المكاني للذات هو نفسه عملية تخيلية، أي انه ليس وجودا حسيا وماديا من الممكن ملامسته أو مقاربته على اسس مرجعية. ان الشجرة والمنزل والشرفة في الشعر لا يمكن ان تكون كما هي في الواقع، ولذلك فإن المكان التخيلي ليس هو المكان المادي الملموس. إنه في الشعر مليء بالحنين والذكرى والعواطف الإنسانية. ثم ان له ملامح وحدود ابداعية اكثر بكثير من ملامحه وحدوده الواقعية. والمقصود بعملية التكثيف ان المبدع يعمد الى اختيار فضاء معين، ثم يجعله في عملية الابداع مجالا تصوريا محدداً يبلوره ويسقط عليه ابعادا انسانية هي التي تمنح للفضاء بعده الفني ووجوده التخيلي في مقابل وجوده الواقعي. ان هذا التكثيف قد يكون هو الوطن، أو هو المدينة التي يعيش فيها الكاتب، والحارة التي تنتمي اليها طفولته، ولكنه في جميع هذه الحالات يتميز في الفن بوجود ابداعي اذا صح هذا التعبير. في قصيدة رائعة غربة، نعتبرها نموذجا للتكثيف التخيلي، يتفاعل عبدالعزيز محيي الدين خوجة بموضوع الغربة فيضيف الى سفره المتعدد وانفصاله عن مرابع صباه غربة إبداعية حادة ووجودية هي اصل المعاناة والتجربة الفنية بالنسبة إلينا. ثم يشيد من خلال الغربتين معا وجودا تخيليا رائعا لموطنه مكة. وجودا تخيليا من صميم ابداعه. ان هذه المدينة المقدسة فضاء للتعبد واقامة شعائر الحج، ثم هي مكان محدد للتواصل مع الذات الإلهية عبر الإحرام والطواف والدعاء. ولكنها بالنسبة للشاعر فضاء مكثف يتميز بالبعد الديني كما هو واقع هذا الفضاء، اي انه ذو بعد مكاني محدد بالكعبة والمسجد الحرام، ثم- وهذا هو الأهم- منطلق لتشييد فضاء تخيلي اعتمادا على هذا التكثيف المكاني. يقول: يا رفاقي والحرف ينزف دمعاً ودماً والجراح في أشعاري قد ذرعت الزمان شرقا وغربا سندبادا قد ضاق بالأسفار غربتي طالت، والأماني صداها في دروب الجنون وت سعاري *** ثار بي شوقي في هجيع الليالي فاستهلت عيناي بالاسرار يا بحار الزمان رفقا بحلمي ضاع شطي في ثورة الأعصار فإلى اين الدرب والعمر يذوي وحنيني الوحيد نحو دياري إيه يا مكة الهُدى للبرايا وجذوري في روضها المعطار كلّما زارني خيال حبيبٌ من مداك الرحيب أوقد ناري كلّما نادى في المنارات حقّ ضجّ وجدي احتلني استعباري واستطابت اطياف مكة فكري من شعاب، وفي حنايا الحواري إذن فنحن بإزاء السندباد وقد استبد به الحنين الى دياره. هنا تشرع آلية التكثيف في الاشتغال. يصبح العالم الذي يطوف به شاعر ذا مركز محدد هو مكة، اي ان الفضاء يجتمع في نقطة محددة هي هذا المكان الذي تحنّ اليه الذات فيستقطب غربتها التي تنعكس لدى عبدالعزيز محيي الدين خوجة عبر شساعة فضائه التخيلي. ولكن السؤال الذي يفرض نفسه ونحن بصدد التعرف على آلية التكثيف عند هذا الشاعر المبدع هو: هل مكة التي تتخيلها الذات الابداعية هي مكة في وجودها الواقعي الملموس؟ ام انها فضاء تخيلي ومكثف تحتمي به هذه الذات على اساس انه بديل يقابل الفضاء الشائع ويتكامل معه ضمن رؤية ابداعية متجانسة؟ ان الذات الابداعية تعيش في هذه القصيدة الرائعة مفارقة رهيبة تتمثل من جهة في التكثيف التخيلي الذي يتم عبر الحنين الى فضاء للاحتماء من الغربة. ولكن هذا الفضاء ليس مكانا عاديا يعكس وطنا عاديا، وانما هو مكان يعتبر مركزا عريقا وابديا اكتسى دلالة التقديس من ازمنة بعيدة، ولذلك فإنه مقصد البشر منذ مئات السنين، بل سيظل مقصدهم الدائم الذي يمثل ديانة سماوية متعددة المشارب والآفاق. انه موطن الهدى بالنسبة لملايين المسلمين. في حين ان الذات تعاني من تعدد وجهاتها ومن ضياعها العبثي الذي لم تختره عن ارادة وطواعية. ثم ان هذه الذات من جهة اخرى تنتمي الى موطن الهدى هذا. وهو يمثل الجانب الثاني من المفارقة. اي اننا بصدد ذات انسانية تنحدر من مكان مقدس يقصده الناس من مختلف الاصقاع وعبر عدة ازمنة، بل يرغبون جميعا في الانتماء اليه. في حين ان هذه الذات مبعدة عنه، تعاني من الغربة الدائمة والمريرة في سبيل ان تحقق وجودا انسانيا خارج هذا الفضاء المقدّس دونما فائدة من ذلك. ولذلك فهي تحس العبث والضياع وغياب المعنى. انه بتفجر هذه المفارقة يظهر هذا التكثيف الفضائي الذي نحاول رصده، ونحن نصر باستمرار على انه تكثيف تخيلي صميم لا يرى في مكة مكانا مقدسا للعبادة بقدر ما يجد فيها مجالا لتصورات ابداعية تسعف الذات في تفاعلها بالارض التي تنتمي اليها. ايه يا مكة الهُدى للبرايا وجذوري في روضها المعطار مكة: + اسم + مدينة + الجزئرة العربية + مقدسة + إسلام الهدى: + اسم + ديانة + استقامة + إسلام البرايا: + اسم + جمع + إنسان جذوري: + اسم + أصل + في التراب + نبات + إنسان روض: + اسم + أرض + خصب معطار: + صفة + رائحة + طيبة فنستخلص ان الذات الابداعية تتخيل بأنها طيب معطار، جذوره في ارض مقدسة يقصدها المسلمون من كل مكان في الدنيا. كلما زارني خيال حبيب من مداكِ الرحيب أوقد ناري زار: + فعل + زيارة + علاقة خيال: + اسم + صورة + غير مجسدة حبيب: + اسم + محبة + علاقة مدى: + اسم + افق + بعيد نار: + اسم + اشتعال + احتراق وهو تحليل يمكننا من ادراك المفارقة الحادة والاليمة التي تعاني منها الذات الابداعية على اساس انها بعيدة عن ارضها وجذورها، تزورها من هذه الأرض الجميلة والمقدسة اطياف حبيبة فتذكرها بغربتها الوجودية المضاعفة وتوقد نار المحبة والارتباط بالارض لديها. إنها مفارقة الغربة والحنين التي تشكل لدى الشاعر موضوعاً رائعاً للإبداع الفني. إن هذا الفضاء التكثيفي المتخيل يزداد تمركزاً في شعر عبدالعزيز محيي الدين خوجة كلما اغرفت الذات في الابتعاد والغربة.. ولذلك فانه يتمظهر بعدة عوامل من جملتها المرأة العربية بصفة عامة، وعلى اساس انها عامل يثير الحنين الى فضاء لابد من اعتباره اصل العروبة وارومتها، ويكفينا للتمثيل على هذا التوجه من ان نتخذ ليلى رمزا لهذا التوجه التخيلي إلى تكثيف فضاء نعتبره أصلاً للعروبة كما قلنا. إن ليلى دلالة طاغية على دواوين عبدالعزيز محيي الدين خوجة برمتها وهي - بهذا الطغيان - حاضرة في كل مرحلة من مراحل مساره الشعري المتعدد، ولذلك فانه لابد لها من ان تحضر ضمن فضاءات هذا المسار انها في بغداد والقاهرة وباريس، ولكنها في جميع ذلك عامل متميز يربط الذات الابداعية بالفضاء التكليفي ويكرس آليته مهما رحلت هذه الذات وتعدد سفرها في العالم. يقول في قصيدته لقاء في باريس: جئناك يا باريس عشاقاً على أمل قلبان فاضا بالهوى لم يعرفا مللا لما ارتحلنا في فضاء الكون فرّقنا بعد المكان ولكنّه الوجدان ما ارتحلا أنت الهوى الباقي ألو ذبه يظللني ويظل يحميني إلى أن أبلغ الأجلا وهو ما نقف من خلاله على أننا بصدد ذات ابداعية مرتحلة في فضاء الكون، ابتعدت ابتعادا متعددا ومضاعفا وغير ما مرّة عن رمز من الرموز المحورية لمحبتها الكبرى والمركزية التي تمثل هويتها ووطنها، اي فضاءها التكثيفي الذي رأينا أنه جذر ارومتها العربية، ولكنها بالرغم من هذا الابتعاد المتعدد وبرغم هذه الرحلة في الفضاء الشاسع، تلتقي في كل رحلة بعامل يساعدها على الرجوع الى الاصل، وعلى ارضاء غريزة الحنين الى الوطن، أي على آلية من آليات تكثيف الفضاء التخيلي واعادته الى مركز الشساعة التي يتميز بها شعر عبدالعزيز محيي الدين خوجة. إن هذه الآلية تتخذ في قصيدة لقاء في باريس صبغة وجدانية تقابل صيغة بعد المكان. ونقصد بذلك ان الذات لم تتفاعل - كما كنا نتوقع وكما هو الامر بالنسبة لبعض أدباء العربية الذين زاروا بلادا غير عربية او استقروا بها - لم تتفاعل خارج الارومة التي يحتمي بها عبدالعزيز محيي الدين خوجة كلما ارتحل. إذ نلاحظ حضور ليلى عبر وجدان شعري تكثيفي هو ايضا، ويخدم الفضاء الأصل ويوظف ضمن آليته. وجدان لا يرتحل أو يتغرب، بل يظل هو عربيا صميما مرتبطا بهذا الاصل ومندمجاً ضمنه. ولذلك فإن ليلى وجدان قارّ وهوى متمركز، تلوذ بهما الذات وتحتمي عبرهما من ضياعها في الفضاء الشاسع الذي تشيده. هذا غرامك في دمي ليلاي احفظه حتى البلى لا أشتكي وجلاً ولا خجلا إن هذا التكثيف يزداد تمركزاً وقوة حين تتضافر عناصر متعددة توظف في اطاره كالعروبة والانتماء الى المكان نفسه، او عراقة النسب وشرف الأصل. وهو ما يعني بالنسبة الينا ان السفر حين يتعدد ويتضاعف، ثم تتزايد معه حدة الغربة والشعور بالضياع، تعمد الذات في هذه الحال الى البحث عن عناصر التفاعل التكثيفية بطريقة اكثر تصاعدا وتنويعا، وكلما كانت العناصر اكثر تضافرا كان التكثيف اشد قوة وتمركزا، ثم اصبحت الذات اكثر احتماء وطمأنينة. إن القصائد التي قالها الشاعر في المغرب قصائد متعددة ومتنوعة، ومنها ما يحيل هذا التوجه الذي يوظفه في اطار تكثيف الفضاء الجمالي لديه، فيجعله فضاء كلما أتسع وتعدد وشعرت فيه الذات بالضياع، عاد ليتقلص ويتمركز ويرجع الى الاصل او نقطة الانطلاق. يقول في قصيدة وداعا يا مغرب: من أنت؟ قالت وهي شامخة: من موطن الامجاد والعبر اي انها امرأة ذات كبرياء ونخوة، تنتمي الى ارض الامجاد التي هي ارض العروبة والاسلام. وهو ما يمكن الذات من الاحتماء ضد غربتها ومعاناتها المريرة وهي بعيدة عن فضائها الاصلي الذي هو منبع المجد والنسب العربي العريق. ابناء عم، فالحسين أبي سبط الرسول وجوهر الدرر إنها ليست عربية فقط، ولكنها الى جانب ذلك منحدرة من آل البيت، تنتمي الى سبط الرسول الذي هو جوهر الدرر، وذلك ما يجمعها مع الشاعر، إذ يشتركان في الانتماء معا الى هذا البيت الطاهر والعريق في المجد. من أين؟ قالت وهي تسألني في رقة الأنسام في السحر أم القرى بلدي ولدت بها في مكة الخيرات للبشر من ها هنا ولد الهدى وسرى بالنور للأمصار والحضر وهنا المشاهد تترى لنا قرآنها يأتيك بالخبر من مثل أحمد جاء يرشدنا بالحق والآيات والسور وتعانق الروحان في وله وتسابقا بين الربى والخضر إنها علاقة الاحتماء والرجوع الى الاصل، علاقة تكثيف الفضاء الى اقصى حد ممكن، لان الذات الابداعية تتفاعل في مستوى الروح مع ذات انسانية تشترك معها في العرق والنسب والطهر، وكلها امور تحتمي بها الذات لانها تذكرها بالفضاء والمكثف الذي تنتمي اليه وتحن الى مرابعه، ثم تتمنى الرجوع اليه كلما اشتدت بها الغربة وامتدت بها شساعة السفر. باختصار انها ذات لا يمكن ان تضيع لان فضاءها التخيلي يعتمد آلية التكثيف بنحو ما يعتمد آليات التعدد، والشساعة واللانهاية. -2 فضاء التعدد للتعدد سمات مختلفة ومتنوعة، من الممكن حصرها في ثلاثة مجالات دلالية كبرى هي التي تؤطر هذه السمات. أ- التعدد في مستوى المرجع إن المرجع هو ما يحيل عليه الدال اللغوي في مستوى الواقع المادي الذي يحاول تمثيله عن طريق المدلول أو الصورة الادراكية. أي أن لهذا الدال ثلاثة مكونات هي الصورة الصوتية والصورة الادراكية، ثم المرجع الذي تحيل عليه هاتان الصورتان. ولكن للشعر كما نعرف نظاما إشاريا يختلف عن نظام اللغة الطبيعية بشكل جذري، إذ صورته الصوتية صورة ايقاعية، والادراك فيه إدراك تخيلي يعتمد آليتي الايحاء والتأويل، أما المرجع فيتسم ببعد جمالي ليست الاحالة فيه سوى ما يتبدى منه فنحاول تحديده. في قصيدة عبث يتخيل عبدالعزيز محيي الدين خوجة ان للزمان أرصفة، وان ذاته ضائعة فوق هذه الأرصفة، تسير في طريق بين ما تريده وتتعلق به وبين ما يضاد هذا من خطو عبثي بين امكنة مختلفة. إن المرجع هنا يتحدد في كونه قد جعل: 1- للزمن أرصفة، وهو ما حاول به أن يقيد المجرد (الزمن) بالمحسوس (الأرصفة). فنقول في اطار التحليل البلاغي: إنه شبه الزمن بالطريق ولم يذكر المشبه به بل أقام لازما من لوازمه هو الطرقات مقامه. ولكن الصورة هنا تتعدى ذلك فتخرج عن تحديد المرجع تحديدا محسوسا الى جعله تخيلا متعددا ومضاعفا من الممكن تحليله وفق الشكل التالي: الزمن: مجرد الأرصفة: محسوس أرصفة الزمان: طرقات متداخلة ومتعددة. وهذا وحده ما يمكننا من إدراك كون الذات وهما يضيع باستمرار في طرقات متعددة اي انها ذات تعيش ضياعا وجوديا رهيبا هو مصدر المعاناة الابداعية بالنسبة اليها. 2- ويتكامل مع هذا التصور المتعدد للمرجع انه اضاف العبث للمكان، فنسب بذلك مجردا إلى محسوس: عبث: مجرّد. مكان: محسوس عبث المكان: أمكنة لا معنى لها. وهو ما يؤكد ضياع الذات الذي هو الصورة المتخيلة التي يريدها الشاعر: وأعودُ وهماً للتسكع فوق أرصفة الزمان ما بين وجداني وخطوي.. ضعتُ في عبث المكان إن هذا التعدد المرجعي يوظف - كما نلاحظ - في اطار تعدد الفضاء الشعري والجمالي لدى عبدالعزيز محيي الدين خوجة، ذلك أن أرصفة الزمان عنصر من هذا التعدد، يخدم الفضاء ويكرسه بسمات تعددية، وغلا فلا معنى لان يضيف الأرصفة الكثيرة للزمن. كما ان المكان بمعناه المادي والمحسوس قد تعدد هو ايضا حين نسب اليه العبث، أي انه جعله مكانا مختلفا ومتنوعا ومضطربا بهدف جعله فضاء شعريا متعددا. فيؤول كل ذلك الى ضياع الذات وشعورها بالعبث في هذا الفضاء. ب - التعدد في مستوى الزمن المادي. يقول في قصيدة أماه: أماه إني قد أتيت وفي يدي طفولتي وتركت خلفي كل أحلام الشباب وبحثت عن يدك النحيلة كي تعانق أوبتي، ورأيتها ممدودة عبر السحاب وكأنها طوق النجاة لحيرتي وقفزت ألثمها.. أعناقها فعانقني السراب. إننا حين نتأمل هذه المقطوعة الجميلة من هذه القصيدة الإنسانية الرائعة، لا يمكننا بأي حال من الأحوال ان نحدد الزمن المادي الذي تم فيه اللقاء بالأم باعتبارها مصدرا للطمأنينة والاحتماء من الضياع. كما لا نستطيع تحديد البعد المادي لمراحل العمر الذي حدث فيها هذا اللقاء. أي اننا بصدد ذات تحن الى الأم في كل لحظة وتلتقي بها على مدى الحياة بشكل متقطع. وهو ما يعطينا زمنا ماديا متعددا يخدم تعدد الفضاء ويكرسه. إن الاصل في المسألة هو الضياع الذي تستشعره الذات خارج فضائها التكثيفي الذي تحدثنا عنه سابقا، والذي تسعى الى اختزال فضائها الشعري الشاسع ضمنه كلما احسست بالغربة والابتعاد عن المركز الذي انطلقت منه للتفاعل بالعالم. إن التعدد معطى من التكليف والشساعة. ولذلك فهو ينعكس في هذه القصيدة عبر المرجع المكلف الذي هو الأم باعتبارها المصدر المركزي للاحتماء من الضياع والغربة، ثم عبر شساعة هذا المركز من خلال ما يرتبط بهذه الأم من يد نحيلة ممتدة عبر السحاب، ومن أطياف وصور تعانق هذه اليد وتحنو عليها، ثم اخوة ونافذة ومزلاج ودار عتيقة. (البقية الأسبوع القادم)