أشياؤك الصغيرة التي تتركينها عمدا بين يدي قلبي وذاكرتي، تجعل رائحتك في روحي طرية وطازجة، بقايا عطرك، مشبك شعرك، ورقة صغيرة معبأة بكلمات عبثية، طلاء أظافرك، دفء مقعدك، عشب صوتك أشياء صغيرة أتفاجأ بوجودها بعد رحيلك، تعيدك إليّ وكأنك للتو أتيتي، تعيد ملء المكان بعطرك من جديد، أعرف أني بعدما ترحلين أحيانا أتمنى لو سلّمتِ مصيري فعلا للوحدة برغم قسوتها، على الأقل أعرف حينها أني أواجه عدوا،أدخل معه معركة نهايتها واضحة الملامح إما نصرا أو هزيمة لأي طرف منّا وصدري بأنفاسك، ويدي بحريرك، وروحي بموسيقاك، وقلبي بشجر حنانك. قلت لك أكثر من مرة، عندما ترحلين… ارحلي كلّك، لا تنسي بعضا منك، لا تنسي أن تأخذي معك غيمة خطواتك، حتى لا تمطر على حين غرة فوق رأسي وأفاجأ بهتانك يغمرني دون أن أستعد له ولو بمظلة. لا تنسي أن تأخذي معك عطرك، حتى لا يتسرّب من ثقوب الحنين، ويهدمني ثم يعيد تشكيلي ياسمينة يقتلها الظمأ إليك، ولا تنسي أيضا أن تأخذي معك عند رحيلك فنجان قهوتك، أو ما تبقى من بُنّها في»ركوة» الذاكرة،ولا تنسي أن تأخذي معك كذلك حلوى ضحكتك، كثيرٌ ما حاولت عبثا أن أجمع أشياءك بعدك لأتخلص منها حتى لا يبقى لك أثر، وكثيرٌ ما حاولت أن أعيد للمكان صورته التي كان عليها قبل مجيئك، أعيد له هدوءه المميت، رتابته، رماديته، حيادية ملامحه، برودة أعصابه، وكثيرٌ أيضاً ما فشلت في إخلاء أثرك من المكان عنوة أشياؤك الصغيرة تغرز أظافرها في الزوايا ويصعب انتشال المكان منها، أو انتشالها من المكان، حتى أنني عندما أنجح أحيانا في التخلص منها، أو هكذا يبدو لي، أجد عددا أكبر منها عالقا بي، بداخلي، أو بجسدي! أجد كلمة منك مندسة في ثياب صوتي، أو نظرة لك قد استقرت في أعماق جفوني، أو همسة تسللت في قلبي واستوطنت هناك جامعة حولها العصافير وجداول الماء وشقائق النعمان وفرح الأطفال، أجد قطعا من ضوئك قد تسربت في وجداني لتحيي سلالة البرق من جديد هناك، وتعيد أمجاد قبيلة النور فيه، عصية أنت على الرحيل، وعاصية، متمردة على جبروته وسلطته، لا تتركي خيارا للخيارات، ولا تمنحي الغياب حرية في الحضور، تفرضين شروطك على المكان، وتساومين سلطة الزمان، سألتك مرة: لماذا لا ترحلين… عندما ترحلين، أجبتني بابتسامة لئيمة رغم جمالها: أخاف عليك من الوحدة! نعم الوحدة مخيفة، إلا أنها أحيانا أقل ألماً مما تفعله بي أشياؤك الصغيرة التي تنسينها عمدا في حضن المكان، وفيني وفي زوّادة ذاكرتي. نعم الوحدة موحشة، إلا أنها لا تحاربك بطلاء الأظافر أو العطر،أو طعم قبلة! الوحدة تقتلني بردا، وأشياؤك الصغيرة تحرقني شوقا فلا أموت ولا أحيا. أعرف أني بعدما ترحلين أحيانا أتمنى لو سلّمتِ مصيري فعلا للوحدة برغم قسوتها، على الأقل أعرف حينها أني أواجه عدوا،أدخل معه معركة نهايتها واضحة الملامح إما نصرا أو هزيمة لأي طرف منّا، ولكن أشياءك الصغيرة تجعلني في مواجهة شاقة مع حبيب،وفي هذه المواجهة المربكة لا تكون النهايات بهذه الشفافية،بل أن أصعب ما في هذه المواجهة هو نهايتها ،حيث يكون للنصر فيها طعم الهزيمة النكراء! أرجوك مرة أخرى… عندما تتركينني ولو لبرهة… لا تتركي بعدك أثرا لك.