يشكل الرقي النقدي علامة فارقة ومؤشراً دقيقاً لمستوى التحضر في البلدان، وفي المقابل يشير الفساد النقدي وتحوله إلى سلعة للتداول المصلحي إلى مؤشر خطير في فساد الثقافة، ولذلك نناقش اليوم مدى حضور واستشراء الشخصنة في النقد السعودي، ومدى مشروعية حضور المبدع أثناء تحليل نصوصه، وما هي الأسباب التي تنتج تسيد حالة الشخصنة للمشهد النقدي ؟ حوافز النقد يؤكد الناقد الدكتور حسين المناصرة أنه «في المشهد النقدي العربي عمومًا، بما في ذلك السعودي، هناك نسبة عالية من النقد الذي يمتلئ بالشخصنة، وكأنه قائم أساسًا على ثقافة المصالح الشخصية اختلافًا أو اتفاقا وهذه أزمة النقد تحديدًا؛ أي ألا يكون موضوعيًا...ربما لا نجد هذا في بعض الرسائل الأكاديمية التي تنتزع نفسها من أهواء الباحثين والمشرفين إلى حد ما...إذن ، المشكلة أن الحوافز نحو النقد المجرد من الأهواء والنزوات أصبحت - إلى حد ما - في خبر كان في سياق النقد الإعلامي (الذي يستخدم وسائل الإعلام)، وغدت هناك حوافز التشارك في المصالح بين النقاد، وهذه إحدى حفر موت النقد واندحاره . الفرقعات نقدية ويضيف المناصرة : هناك من يطلق فرقعات نقدية، لتشتغل بها الصحافة الإعلامية وهذه فرقعات يستجيب لها الإعلام للأسف لمجرد أن فلانًا أو علانًا يحمل درجة الدكتوراة في الأدب والنقد، وقد غدت هذه الفرقعات تصريحات «موضة» بشعة، ولا يحسن بالناقد أو بالإعلامي أن يروج لمثل هذه الفرقعات الإعلامية المبتذلة في كثير من الأحيان على طريقة أن يصرح أحدهم عن القصة القصيرة جدًا أنها «حمار من لا حمار له» .. فهذا نقد «تحميري» أساسه المغالطات والنرجسيات والشوفينيات البائسة . شخصنة الإبداع ويختم المناصرة قائلا : بكل تأكيد لا يخلو إبداع من البعد الذاتي أو الشخصي؛ ولأنه إبداع فهو كذلك يستمد روحه من مبدعه المختفي وراء الكواليس في النص، لكن أن تكون الشخصنة مسطحة ومكشوفة ومترهلة جماليًا، فهذا ابتذال للعملية الإبداعية. وعندما تبدو شخصية المبدع «مسيلة» في كتابته، فهذا يعني أنه يكتب ذاته أو سيرته أو رؤيته. وهنا تدرك أهمية الكتابة الذاتية أو الشخصانية بقدرتها على إقناع المتلقي والتأثير فيه جماليًا، ومن خلال دمج الذاتي بما هو غير ذاتي . حياة المؤلف الكاتب محمد البشير يرى أن «من يطالع النقد في صحفنا أو ما يُنشر على الشبكة العنكبوتية لا ينكر حضور المؤلف في النقد، فالنقد إما مع أو ضد، فالناقد يطالع النص وكاتبه في الغالب والكاتب أولاً، وبنظرة لا تخرج عن قول الشاعر : وعين الرضا عن كل عيب كليلة / ولكن عين السخط تبدي المساويا». ويضيف : النقد المجامل أو المجاملات النقدية - إن صح القول بنقديتها - حاضرة ، وفي المقابل النقد المتحامل حاضر على قلته لقلة قنوات نشره أو قلة من يتعاطاه، فالقول بموت المؤلف لا يكاد يجد مكانه في نقدنا الصحفي، فبتلك النظرة يكون الاحتكام للنص ولا شيء سوى النص . ولكنه يلفت إلى عدم إغفال «أن حضور المؤلف نقدياً لازم عند من يحلل النص نفسياً أو تاريخياً مثلاً ، فحضور المؤلف وحياته في المدارس التي تعتمد حضوره واجب لا مناص منه، فليس كل حضور للمؤلف ممقوت متى ما كان منهجياً». ويختم البشير مؤكداً : إن كانت الشخصنة خاصة في القدح أكثر إثارة من التطبيل صحفياً وتواصلياً، والدليل عندما تقاس المادة مقروئية (أو انقرائية على قول)، فالمواد التي تناقش شخصيات أكثر جذباً في زمن انحسار السجال الصحفي وانتقاله إلى ساحات إلكترونية ومواقع تواصل اجتماعي . واقع مرير يرى الشاعر مسفر العدواني أن الشخصنة في المشهد الثقافي واقع مرير : لن نستطيع التخلص منه لأننا في غالب الأحيان ننقد ونناقش أشخاصاً وليس أفكاراً، فبالتالي نحن نحاول من خلال ردة الفعل أو الشهرة الزائفة أو الشليلة المنتشرة والمسيطرة على المجتمع الثقافي والإعلامي عندنا - أقول نحاول فقط - الظهور إعلامياً بغض النظر عن ظهور فكرنا أو نقدنا.! ويرجع العدواني ذلك إلى «عدم قناعة البعض في أن النقد المهذب والبناء هو نقد الفكرة وليس الشخص، وربما يجد البعض لبساً وعدم فهم في ذلك». وحول ما إذا كانت الشخصنة ضرورية أحيانا لارتباط العمل بشخصية مبدعه يقول : نحتاج الى تهذيب الشخصنة أولا، وربطها فيما بعد بالمنتج على شرط أن تكون خالية من ترسبات اجتماعية سابقة. الموضوعية أولا الكاتب الأديب عبدالله الشايب يرى أن «النقد من حيث المبدأ ينبغي ان يكون موضوعيا معتمدا على ادوات الناقد وقدرته على فهم النص, قد يحاكي العمل بعيدا عن الفكرة والصياغة ومجمل الحالة الأدبية, لكنه قد يحاكيها اما من باب البنيوية التي يرتب عليها اثرا تراكميا او من باب التفكيكية التي يرتب عليها اثرا رجعيا من هنا ايضا مدخل لميتافزيقا النص التي تعتمد على استنتاجات نقدية متعلقة بدفق الكاتب الشخصي أي أثره النفسي وموطن ولادته وتربيته وفكره الاجتماعي والسياسي وغيره بل ربما اكثر فيما يرمي الى علاقاته ايا كانت خصيصيته, لعل الناقد يستطيع استنتاج ذلك بشكل او آخر وقدرته ان يصيب او يخطئ تجعله على المحك». ويبين الشايب أن تحول النقد لنقد شخصي غالبا يكون عند ارادة الاسقاط وبالتأكيد هذا سلوك غير مبرر, لكن الاطروحة الكلية للكاتب محل اعتبار ويمكن ان تتواجد خلال الحالة النقدية كالمرجعية الفكرية العامة, والتساؤل المطروح دائما اذا كان للناقد معرفة مع صاحب النص هل يحق له استخدام نقاط معرفته به وتجييرها لصالح قدرته النقدية, هنا اشكال علاقاتي بحت واعتقد انه لا يوجد مسوغ للناقد بالبوح عن تلك المعلومات وإثرها في النص . ركود نقدي الشاعر حسن الربيح يقول انه لا يسمي الكثير مما يصنف كنقد نقداً، ويضيف : أنا لا اسميه نقدا لأن مفهوم النقد العلمي الشامل غير متوفر فيه، النقد الذي يتناول الايجابيات والسلبيات لنص غير متوفر اليوم في الساحة، النقد الذي يتناول ماذا أضاف النص للمشهد الابداعي وتتوفر فيه رؤية نقدية حقيقية ومتكاملة تمثل إضافة للنص وتتلمس ابرز جوانب الابداع فيه وتخرجه من دائرة الانطباعي والسطحية البعيدة عن الشخصانية وعدم الموضوعية هذا ما نحتاجه في الساحة الادبية والفكرية . ويختتم : للأسف ما هو موجود اليوم في الساحة من نقد لا يعدو كونه نوعا من المجاملات والعلاقات الشخصية ، نحن بحاجة إلى نقد يكسر حالة الجمود والركود في الساحة، ومن هنا أدعو الاكاديميين الذين يملكون أدوات النقد المنهجية لإحداث حركة نقدية نحن في امس الحاجة إليها لأننا مللنا من نقد قائم على الانطباع والمجاملة . النقد المواكب القاصة أمل يافع أكدت «تأخر النقد السعودي بمراحل، فكم عدد النقاد الموجودين في الساحة؟ لا يكاد يتجاوز اصابع اليد، لدينا على سبيل المثال الدكتور عبد الله الغذامي هو من قدم رؤية وفكرة نقدية بامتياز، وبعض التجارب المحدودة التي نشاهدها هنا وهناك، ولكن بالعموم حركة النقد المستمرة التي تسابق أو توازي حركة الابداع لا أقول غير موجودة ولكنها قليلة». وتضيف : وإن ظهر ناقد أو منتقد لعمل ما لا يعدو نقده إلا انطباعا أو تصورا محدودا وليس نبش وحفر ما في نص المبدع من قصور أو تقدم ، ولهذا أنا أقول نقد اليوم ليس شخصانيا فقط بقدر ما هو يفتقر للإبداع والتحليق بالقارئ في عالم قراءة النص وكشف ما لم يقل. والدعوة التي اختصر بها كلامي هو أن يكون هناك نقاد يشتغلون على النص بأدوات نقد حقيقية بعيدا عن الرأي المسلوق والسريع البعيد عن القراءة الفاحصة ، نريد نقدا مواكبا لحركة النص وموازيا لها لنبتعد عن الشخصنة. الإعلام الجديد ويؤكد الناقد ماهر الرحيلي أن النقد منذ القدم كان يصنف على نوعين: نوع انطباعي ونوع موضوعي، وهو المعمول به أكاديميا بعكس النقد الانطباعي القائم على النظرة الأولى البعيد عن لغة وأدوات النقد الحقيقية، لذا أرى أن المشتغل على النقد الموضوعي هو الأقرب لأن يصنف بأنه ناقد يمتلك أدوات النقد بشكل يجعلنا نقرأ النص بصورة مختلفة وهو من يخدم النص في النهاية، ولكن الموجود الآن في ساحة الاعلام هو النقد الانطباعي المحكوم بالنظرة الأولى لذا نجد أغلب هذا النقد يفتقر للعمق والموضوعية ومن هنا نراه يتجه لذات المؤلف وليس لنصه، وهي في ظني تشكل مشكلة كبرى أن نتجه لذات المؤلف ونترك نصه. وعن الأسباب يقول : أبرز اسبابه هو الاعلام الجديد الباحث عن الومضة واللقطة السريعة الممثلة في الايجاز والاختصار المضر في النقد، ومن هنا أرى أن النقد الحقيقي مكانه ليست ساحة الاعلام وانما في المؤسسات الاكاديمية والمجلات المحكمة الباحثة عن نقد موضوعي بعيدا عن الشخصنة والانطباعية العابرة.