القادمون من الواحة الخضراء تعملقوا .. القادمون من العيون السبع تفوقوا .. القادمون من النخيل تميزوا .. القادمون من أصل الطيبة وبساطة الإنسان تصدروا .. ! ** هرولوا في البداية .. ركضوا في الوسط .. أسرعوا في النهاية .. هو حال أزرق الساحل الشرقي الذي مسح من القاموس ما يسمى ( النفس القصير ) .. وعطل فكر أولئك الذين يستصعبون الوصول إلى القمة .. لمجرد أنهم صغار والاخرون كبار .. لقد ألغى الفتح مفاهيم كثيرة كانت تعشعش في رؤوسنا لسنوات طوال .. لقد حول ما يسمى بالخيال إلى واقع .. وحول السراب إلى ماء .. وأنعش الصحراء بمطر الطموح .. وأسقى النخيل بماء لا يعرف اليأس .. !! ** لم يكن هذا الفتح مجرد زائر في محطة الكبار .. ولم يكن عابر سبيل .. ولم يخضع لقانون الاستسلام .. فهو يؤمن بأن الصغير يكبر وأن منصات التتويج حق للجميع .. تلك المعادلة غيرت من وجه الكرة السعودية في عام 2013.. وسيذكر التاريخ أن هناك فريقاً اسمه الفتح من ذوي الدخل المحدود انتصر على أصحاب الملايين في الدوري السعودي .. ! ** وسيسجل التاريخ للفتح أيضاً أنه النادي الوحيد الذي صبر على مدربه ما يقارب الست سنوات من الدرجة الأولى إلى لقب الكبار .. فهو لم ينسق وراء موضة تغيير المدربين وإيجاد كبش فداء لكل أزمة فنية .. لقد برهن الفتح أن العقلية الإدارية بإمكانها صنع المعجزات حتى وأن لم تتوافر المادة بالشكل المطلوب ..! ** نعم .. الدوري لم ينته و النقاط الخمس صعبة جداً في المرحلة القادمة ولكن من نجح في مواقف أصعب مما هو آت لن ينحني وسط العواصف القادمة فما مر على الفتح من مرحلة تثبيط لم يمر به أي فريق آخر ومع ذلك سجل الاعجاب ونال المراد ..! ** نعم .. هالة من الضوء المشع تخترق جدرانا مختلفة .. تضيء في الواحة الخضراء .. تمر عبر مئات من النخيل الباسقات .. وتلمع في عين أم سبعه وعين الحارة وعين النجم وعين الجوهرية وعين الأخدود وعين وزية وعين مرجان .. وهي عيون الاحساء الممتدة عبر واحتها الخضراء منذ آلاف السنين . ** قررت وأنا أعرج بمحبرتي على الفتح أن أسافر لمصادر التراث والعراقة والبيئة في جغرافية المكان والزمان .. فالفتح ليس فريق كرة قدم يتقن الفن عبر المستطيل الأخضر .. بل هو عنوان لشموخ النخلة .. وتاريخ العيون القابعة في جذور التاريخ .. ومدرسة في العلم والأدب والتراث . ** جربت أن أبحث عن سر الضوء القادم من الواحة الخضراء .. فالإضاءة التي أضفت على مساحات واسعة كانت تسير بسرعة البرق .. وفي كل محطة تركت لها بصمة . ** حينما اقتربت من حل لغز هذا الضوء الاحسائي , تملكني ذعر غريب , وجحظت عيناي , وتصبب جبيني عرقا , وفمي ظل فاغرا , وقلمي توقف , وأحرفي عجزت أن تستكمل جملة واحدة , ونسيت في زحمة البحث , أن هذه الواحة كتب عنها الشاعر العربي الفحل طرفة بن العبد , والشاعر الأمير خالد الفيصل , وغيرهما من فطاحل الفكر والشعر والأدب , وأيقنت حينها أن كلماتي هوامش وهي تتغزل في فتح الاحساء الذي مر بجواره شعراء بني قيس . ** حركت أصابعي .. لملمت لعابي .. جففت عرقي .. وارتميت في أحضان كرة القدم وجغرافيتها ومكانها وهمومها , وتركت تلك الواحة الخضراء تسبح في أحرف خالد الفيصل وطرفة بن العبد , فليس لي طاقة لمجاراة ما كتب عنها من جمال ورقي , وليس لقلمي سحر لذكر مناقبها , فهي واحة للعلم والأدب والبلاغة . ** ولكنني أدركت وأنا انسحب من ساحة معركة التراث والعلم لهذه الواحة .. ان «فتحها» شرب من عيونها .. وأمعن النظر في خضرتها .. ونهل لاعبوه ومنسوبوه ومحبوه من تمر نخيلها الباسقات .. وأخذ أبناء النموذجي من النخيل النظر إلى أعلى .. ومن المشاتل والمزارع المنتشرة في واحتهم الخضراء فن التنسيق والانبهار والإبداع في نخيلهم , ونقلوها للمستطيل الأخضر مع معشوقتهم كرة القدم , فالإبداع حالة متلازمة بين أقدام تقدم المهارة في الملعب لجمهور عريض .. وبين أيدي تقطف التمر والرطب لتقديمه أيضا لجمهور عريض . ** نعم .. تشغلني هذه الألفة .. وتغريني للكتابة أكثر .. وتشعلني غصبا .. لأعود بالسؤال ماذا تريد مني هذه الواحة «بفتحها» ونموذجيتها الساحرة ببرها وبحرها ونخيلها وأهلها ؟ ** هل هو حب من قلمي جاء متأخرا ؟ ام سحابة صيف عابرة ؟ ام مع مبدأ «مع القوم يا شقرة» و»حشر مع الناس عيد» بمناسبة انتصار هنا وهناك لناد قادم من دهاليز الأولى تفوق على الكبار في الأضواء ؟ ام أن الأمر لا يعدو كونه دغدغة مشاعر محبي هذا الفتح ؟ ** لا هذا ولا ذاك .. ولكن شدني الشموخ الذي كان عليه أبناء الفتح من مسئولين ولاعبين وجماهير .. شموخ يعرف الحدود جيدا .. لا يعطي نفسه أكثر مما ينبغي .. لكنه لا يرضى بأن يكون ضمن العربة التي تحمل الأمتعة في نهاية القطار . ** ذاك الشموخ .. وتقدير الذات .. وتقدير الإمكانات في الفتح هو للأسف الشديد الغائب عن جيرانه في الساحل الشرقي الاتفاق والقادسية . ** لقد أدخل فضاء الشموخ لهذا النادي الذهول والانبهار لفرق كبيرة .. وأصبح الفتح مثالا يحتذى به في العمل الإداري بالأندية , فالإمكانات مهمة لكنها ليست كل شيء , وما فعله النموذجي هذا الموسم دلالة واضحة لتثبيت الدور الإداري الذي ينتج انجازا وانتصارا ونبوغا . ** ولكنني وسط هذا الشموخ الفتحاوي .. وانتصاراته .. أنصح رجاله بالنظر إلى التاريخ جيدا , فالتشابه بين محافظة عنيزة ومحافظة الاحساء .. تشابه كبير في النخل والمشاتل والمزارع .. وكان في عنيزة ناد حفظناه في السابق عن ظهر قلب اسمه النجمة صعد للممتاز ووصل للمربع الذهبي , وأصبح آنذاك من الكبار .. لكنه ذاب فجأة مثل ذوبان الثلج من حرارة صيف حارق .. هذه العبرة يجب أن تكون على طاولة مسئولي الفتح وشرفييه .. وإلا سيكون مصيرهم مثل النجمة , فالحماس وحده لا يكفي . ** بعض من فقرات هذه المقالة سبق أن نشرت ولكنني فضلت إعادتها تغنياً للإحساء