جاءوا بكِ إلى الساحة فأقعدوكِ ثم تنحوا عنكِ متوجهين بأنظارهم إلي. كنتُ قد هبطتُ من سيارةِ الجيب السوداء، ووقفت إلى يسارك في نقطة متأخرة عنك بخطوتين. تجشأتُ بصوتٍ طالما قال من سمعه بأنه عال، أما زوجتي التي ترفض أن تشاركني إفطاري حينما تسمعني في الصباح أتجشأ بتلك الطريقة، فتقول لي جازمة: ستقطع اليوم رأس أحدهم. تجشأت خلفك، فرأيت رأسك المغطى بقماش أبيض ينحني قليلاً جهة ركبتيك، ورأيتك تصغين وسط الضجيج. كانت كتيبة من الجنود تشكل حلقة بيننا وبين آلاف الناس، تأمرهم بالانضباط، وتدفعهم إلى التزام الصمت والهدوء. وما إن بدأ قارئ الحكم برفع صوته في القراءة حتى أنصت الجميع، تاركين لأجسامهم اتخاذ الوقوف المناسب في الزحام. كان يقرأ وينظر إلي من مكانه البعيد عني. كل العيون نظرت إلي في تلك اللحظة باستثناء عينيك. كنت تصغين فحسب. الذين سبقوك إلى نفس المكان، كانوا في الدقائق الأخيرة من حياتهم يصغون معصوبي الأعين كما كنت تصغين لحظتذاك. لم أكن أعرف من تكونين، لا اسمك، ولا تفاصيل جريمتك، ولا أين ومتى ارتكبتها، لكني عرفت فحسب أني سألقى في الساحة شخصاً محكوماً بالإعدام. أُبلِغتُ رسمياً أن علي تحضير نفسي للمهمة، فتهيأت منذ الصباح الباكر في منزلي. صليت الفجر مع الجماعة. أفطرت وحدي على خبز إدامه الجبن وزيت الزيتون. شربت كوباً من الشاي الثقيل. لبست ثيابي، وكان قد بلغ بي التجشؤ غايةً حدت بزوجتي إلى أن تغلق على نفسها باب الغرفة. في الطريق، دعوت الله أن يضع سيفي في الرقبة بعدله لا بقوتي. وأن تكون الضربة برحمته لا ببطشي. وألا أهيج، ولا أثور، ولا أخرج عن طوري إذا ما رأيت الرقبة مفصولة عن الجسد، والدم يسيل على الأرض. لم أنس بالطبع أن أحد أسباب وجود العدد الكبير لرجال الأمن في المكان، إنما جعل للسيطرة علي عند أول بادرة مني توحي باستخدام سيفي في قطع رقاب الناس من حولي. ما أسهل ما يجعلني الدم السائل أسخن وأتغير، أعترف بذلك، لكن ثمة حد يصبح فيه تغيري فوق قدرتي على لجم رغبتي في القتل، وعندئذٍ يتدخل الجنود لمنعي من إشباع نهمي في سفك الدماء. عندما وصل قارئ الحكم إلى اسمك، توقفت عن التنفس، كدت أصرخ كما لو أن صاعقة نزلت على رقبتي فلوتها. كنتِ إذاً تلك المرأة الجاثية أمامي على الأرض. المرأة الضئيلة، المصغية وسط الضجيج. في الزمن الذي كنتِ فيه بنتاً حلوة، بعينين كحلاوين، وقوام جميل ممشوق، كان جسمك أكثر امتلاء. في الحي الشعبي الذي قطنتُ فيه ثمانية أعوام، ثم فارقته مكرهاً، رأيتك مئات المرات تروحين وتجيئين من أمام الدار. في البدء، كنت تخرجين بثيابك العادية كما يخرج الأطفال بأثوابهم القصيرة في ذلك السن، ثم رأيتك تلبسين العباءة. حينذاك، خيل إلي أول الأمر، أنك تقلدين أمك فحسب، لأن مشيتك المضطربة دفعتني إلى التأكيد بأنك مازلت صغيرة. لكنك مذاك لم تفارقي العباءة ولا فارقتك نظرات الناس. بعد أعوام سمعت بأنك تزوجت فقلت في نفسي هذا أوان ربيعها، وسعدت لك للغاية، ولم أطلع أحداً على سعادتي بأخبارك الطيبة. ثم جاءني نقلة الأخبار يفصلون لي ما حدث لاحقا. قتلتِ زوجكِ بمسدسه وهو نائم، دون أن تشرح الأخبار لماذا؟ كنتُ آنذاك، في دورة تدريبية مكثفة لرفع استعدادي على أداء مهمتي برباطة جأش. كنت أدخل قاعة مظلمة، موصدة الأبواب، تغص بأجسام مختلفة لحيوانات وبشر صناعيين فأصوب إلى رقابها سيفي حسبما تقتضيه التعليمات المشددة على ضربها بدقة لا تحتمل الخطأ. سلموني العهدة وهي مسدس وبضع رصاصات لأحمي بها نفسي فيما لو حاول قتلي أحد أقارب الذين نفذت فيهم القصاص. وفي المساء ذهبت إلى البيت لأخبر زوجتي بما سمعت عنك. بكت حزناً عليك، ثم أفشت إلي بسرٍ لم أكن لأضطرب لو كنت علمته من غيرها. كنتِ أنتِ من حدث أمي عن بنت آل فلان التي أصبحت زوجتي فيما بعد. نظرت إلى زوجتي، بعد إفشائها السر، بقلق، ففهمت قصدها، ولأني كنت وقتها مبتدئاً في مهنتي، أكدت لها بأن من المستبعد تكليفي بمهمة حقيقية بهذه السرعة. غير أن أمد الكشف عن ملابسات الحادث طال فامتد عامين كاملين، قطعت خلالها ثلاث رقاب نلت عليها درجة الثقة المطلوبة. عندما سمعت اسمك يتلى أمام الملأ، في ساحة الإعدام، تمنيت لو أن الأرض ساخت من تحت قدمي. أصابتني رعدة مفاجئة، تراجعت إلى الوراء خطوة، تنحنحت وأنا أنظر إليك. كنت على هيئتك تصغين لقارئ الحكم، بل كنت تصغين لأية حركة تصدر من ورائك. تذكرت البنت الحلوة التي ارتحت إليها سنين طوال، البنت التي نالتني بركتها فتزوجتُ على يدها بأسرع وأيسر مما تخيلت. لكن... حدث ما حدث.. في النهاية، لابد لسياف مثلي أن يتحلى في ساحة القصاص بالإقدام والجسارة وإلا لاهتزت في عيون الناس هيبة العدالة. رأيتني أتقدم وسط دهشتي، وصدمتي. في زحام المشاهد القديمة التي انفجرت داخلي بعد سماع اسمك، رأيتني أتقدم إليك، ثم... حدث ما حدث.