العبور في مفترقات الطرق الحزينة التي تعبر بين آلاف الضحايا المدنيين وبين مصالح بلدانهم الإستراتيجية وتأمين سلامة المستقبل لمجتمعهم الأهلي, هي من أصعب قراءات التحليل السياسي فهي رؤية تُقّدم في حقل أشواك ومشاعر ثائرة وهي هنا ماثلة في ليبيا وثورة شعبها، لذلك نبدأ بالحديث عن أساسيات مهمة في تناولنا مستقبل الثورة الليبية قبل رسم تصور عبور آمن مرتجى لتحقيقه عن طريق أبناء ليبيا أولاً وأخيراً, يحقق مستقبل الحرية للشعب والاستقلال عن أي تأثيرات مخيفة للتدخل الدولي. وأول مبدأ هو أنّ هذا الشعب واجه تاريخياً نظاماً قمعياً دموياً من أسوأ الأنظمة في التاريخ العربي المعاصر , جمع بين الوحشية وحالة من الهستيريا الشخصية التي تكاد تؤمن بحالة تأليه لذاتها وأجبر الشعب في دورات زمنية على التعاطي مع هذه الخرافة المنفذة على رقابهم بالسلاح وكانت وجبات الإعدام لأبناء الشعب الليبي تقدم إلى وسائل الإعلام على دفعات لا تهدأ منذ تولي العقيد معمر القذافي السلطة, فيما كانت فرصة للانتقال إلى تطور ديمقراطي قائمة مع الحكم الملكي السنوسي الذي أسقطه القذافي وكان يحمل تعاطفا شعبيا. كان الغرب يتأخّر بخطة لا يمكن أن تكون عفوية لإقرار الحظر الجوي الذي كان مقبولا أن يقف عند هذا الحد, غير أنّ الحظر جاء بعد انتفاء أهميته العملية, وأضحت المشاركة الأطلسية تتجه لتحقيق وجود استراتيجي يضمن لها عدم حرية قرار ليبيا المستقلة وربطها بفاتورة دولية خاصة مع بقاء السقف التفاوضي مع العقيد القذافي والمبدأ الثاني أنّ الثورة الليبية خرجت في إطار سلمي لم تحمل قطعة سلاح ووُجهت بصورة مبكرة بمذابح نفذتها كتائب العقيد القذافي التي أنشأها خارج إطار القوات المسلحة كدليل لعدم ثقة هذا النظام في أي من قطاعات شعبه وهي تتشكل من مرتزقة من أفريقيا وأمريكا اللاتينية قدماء في توظيفهم المهام القمعية ، إضافة لمن استقدمهم بعد الثورة, ولم يكن تمرد العقيد على الحالة الرسمية العربية في مواسم عدة يحقق أي دور ايجابي لنصرة القضايا العربية, إنما كان يستخدم نفوذه وأموال النفط لمشاريع تحقق ذاته الشخصية في تجسيد موقف مختلف إعلاميا دعائياً فقط, ثم وصلت الحالة إلى أن تبنّى بنفسه بعد لوكربي هدم كامل السيادة لليبيا دولة ونظاما سياسيا وفتح للغرب كامل حدوده ووافق على كل شروطهم في دفع إتاوات ضخمة من رصيد الشعب الليبي غير المسئول عن لوكربي بالمطلق ثم منح الغرب امتيازات مفتوحة لكامل الثروة النفطية, أي أنّ الغرب كان أكبر حالب لمصالح الشعب الليبي وشريكاً في نهبها مع أسرة العقيد. هذه الصورة كانت ماثلة أمام قيادة الثورة في ليبيا وهزلية دعوى الاستقلال ومواجهة الأجنبي التي طرحها العقيد وحظيت الثورة بدعم شعبي كبير وباعتماد جيد نسبيا من مجلس التعاون الخليجي والجامعة العربية بالمقارنة مع تجارب سابقة, وكان المرتجى إذاك أن تتقدم الثورة لتحقيق زحف وتطويق أرضي شعبي بعد المجازر الأولى التي ارتكبها القذافي في طرابلس وبنغازي مع التضامن المحتشد بين أبناء الشعب الليبي وموقف علمائه. لكن طبيعة الأرض والدموغرافيا وتشكل المجتمع الليبي وتكثيف الاستقطاب العشائري الذي اتضح أن العقيد يعمل عليه لعقود, وكان الرأي العام العربي بعيدا عن هذه التصور , لكنه تصور أصبح حقيقة واستخدمه العقيد لإعادة الزحف على مناطق الثورة وارتكاب جرائم حرب لاتزال تُمارس في مصراتة وغيرها وكانت في أجدابيا واعتمدت طريقة القتل التصفوي الشامل للمدنيين, وكانت المشكلة أن تلاعب القذافي بالبناء القبلي تسبب في رص بعضه مع الكتائب التي عادت للزحف والسيطرة على العديد من المناطق. كان الغرب يتأخّر بخطة لا يمكن أن تكون عفوية لإقرار الحظر الجوي الذي كان مقبولا أن يقف عند هذا الحد, غير أنّ الحظر جاء بعد انتفاء أهميته العملية, وأضحت المشاركة الأطلسية تتجه لتحقيق وجود استراتيجي يضمن لها عدم حرية قرار ليبيا المستقلة وربطها بفاتورة دولية خاصة مع بقاء السقف التفاوضي مع العقيد القذافي. صحيح أنّ القصف الجوي قد يكون من الأسباب الرئيسة لوقف مذبحة بنغازي الثانية حين عادت كتائب القذافي إليها, لكن أي زيادة أو تكثيف لهذا التدخل يأتي في سياق خطير على مستقبل ليبيا الجديدة، وهي قضية يجب أن تؤخذ في الحسبان تراعي دماء الأبرياء وحرمتها، وتحسب حساب هذا التدخل الذي للعرب تجربة قاسية معه حتى مع سلامة المدنيين، وإن لم يصل للنزول على الأرض في ليبيا. فالمدخل الوطني لأشقائنا في ليبيا الآن يجب ألا يشتغل بمزايدة القذافي على الاستقلال الوطني الذي ضيعه قديما, لكن تحسب قيادة الثورة الليبية هذه القضية بدقة وان تعمل على تنشيط وتقوية الأركان العسكرية للثورة وتعتمد تحييد تدخل التحالف تدريجيا والتنسيق بين الغطاء العربي الممكن والموقف التركي الذي طرح هذه المخاوف, وهذا لا يعني أبداً التخفيف من حجم المذابح، لكن العقل الوطني الاستراتيجي هو من يجب أن يحكم الموقف من أجل هذا الشعب العظيم ودولة الحرية المستحقة.