على الرغم من حُبّ أفلاطون للشعر كقيمة فنية وجمالية، إلا أنه استثنى الشعراء من المشاركة في إدارة مدينته الفاضلة. ربما لأن الشعر انفعالي وخيالي وحالم وغير عملي، وكلام الشاعر مجازيٌّ وحمّال أوجه. كما أن اللذة والألم لا يصلحان بديلا عن القانون والمعايير العقلية. وقد أناط أفلاطون إدارة تلك المدينة بالفلاسفة وأصحاب الاختصاص. ويمكننا أن نفترض، مجرد افتراض، أنه لو عاش في عصرنا لرأى أن يدير مدينته فلاسفة و(تكنوقراط). أركاديا والمدينة الفاضلة عالمان متشابهان. فكيف يمكن تصور العالم لو أداره الفلاسفة، أو أُدير وفقا لرؤيتهم؟ هل سيكون أحسن حالا مما هو عليه الآن؟ ثم ألا يعتبر طرح مثل هذا التصور من قبيل الأمنيات، أو الحلم بالعيش في عالم (أركاديا) الأسطوري؟ وهل يمكن تحقيق ذلك العالم المثالي الذي يعيش فيه الناس ببساطة ومتعة، والذي طالما ألهم الفنانين، وتغنى به الشعراء، ونظَّر له الفلاسفة؟ هو تصور أقرب إلى الحلم. لكن، ما دام الحالم لا يعيدنا إلى عصور التخلف، ولا يلجأ إلى القوة أو العنف لفرض أحلامه، فلا خلاف في ذلك. يلاحظ، وبسخرية بالغة، خداعَ أولئك «الذين يرفعون عيونهم وعيونَنا نحو سماء المبادئ لتحويلها عمَّا يفعلون»! هل تشك في ذلك؟ إذا راودك الشك فشغّل جهاز التلفزيون، وتنقل بين الفضائيات العربية، وتابع أخبار المعارك الحامية، والصراعات الدامية، والمحرضين عليها، وستجد أمثلة تشيب لها الرؤوس! الفيلسوف معني بطرح الأسئلة، وهو، كما يقول الفيلسوف الفرنسي موريس ميرلو بونتي، أشبه بمسافر يحتل مقعدا خلفيا في قطار «لا يرى أبدا سوى الأماكن التي تجاوزها»، أي أنه لا يدعي المعرفة بالآتي، أو حقّ الإقامة في المعرفة المطلقة. ويبدو لي أن الفلاسفة الذين حلموا بأركاديا قد اختاروا تلك المقاعد الخلفية من القطار. وبخلاف الفيلسوف المفتون بطرح الأسئلة، والذي يعرف أنه لا يعرف، ولا يرى أبدا سوى الأماكن التي مر بها، يوجد من يدعي وبيقين صلب أنه يمتلك جوابا لكل سؤال، وأنه يرى ما لم يره أو يسمع به أحد، وينكر في الوقت نفسه المعرفة المحققة التي تخالف حقيقته الخاصة. مثل هذا النموذج الذي ابتليت به البشرية، يحمل اليقين بيد، والبندقية أو العبوة الناسفة بيد أخرى. كما لم يتجاوز مستوى تفكيره حدودَ الغابة، أي أنه لم ينتصر على الوحش الكامن في داخله، ولم يستطع الانتقال من مرحلة المخلب والناب. لذلك لم يسلم من عنفه بشر أو شجر أو حجر. وما دام الكلام يتعلق بإدارة الفلاسفة للعالم، فقد يستطيع المرء أن يجادل بأن الفيلسوف نيقولا مكيافيللي الذي فصل السياسة عن الأخلاق، والذي لا يوحي اسمه إذا ما ذكر بالارتياح، يبدو، والحال هذه، أفضل من ذلك النموذج الميال للعنف بكل أشكاله. فقد كان مكيافيللي ضد العنف، ومع انتقال البشرية «من الصراع بالقوة إلى الصراع بالقوانين» بحسب ما جاء في كتابه (الأمير) الذي أهداه إلى حاكمِ فلورنسا. أما آراؤه في الفظاظة أو القسوة فتتناغم مع قول الشاعر أبي تمام: «فقسا لتزدجروا ومن يكُ حازما/ فلْيقْسُ أحيانا وحيناً يرحمُ». ومن بني البشر من لا يعرف أحيانا أين توجد مصلحته. لا يقرُّ بونتي، بالتأكيد، كثيرا من آراء مكيافيللي (وقد وجد مكيافيللي نفسه صعوبة في تبرير آرائه) لكنه يلاحظ، وبسخرية بالغة، خداعَ أولئك «الذين يرفعون عيونهم وعيونَنا نحو سماء المبادئ لتحويلها عمَّا يفعلون»! هل تشك في ذلك؟ إذا راودك الشك فشغّل جهاز التلفزيون، وتنقل بين الفضائيات العربية، وتابع أخبار المعارك الحامية، والصراعات الدامية، والمحرضين عليها، وستجد أمثلة تشيب لها الرؤوس! [email protected]