لا أدري لماذا قررت الآن فقط أن أكتب عن لحظة مر عليها الزمن قبل ثلاث سنوات . مر في لحظة لا تشبه شيئاً آخر سواه ..الزمن فقط فهو الأول والآخر في تلك اللحظة لأنها يمر بأقصى سرعة له خلال أجزاء من الثانية بسرعات متكررة تشبه إضاءات الفلاش التي تسابق بعضها بعضا عندما يقف أحد البارزين ليلقي خطاباً . كنا بدأنا نعد العدة للرحيل للخروج من ذلك البيت العتيق الذي قضينا فيه قرابة ثلاثين عاما . بيت خرجنا منه ودخلنا إليه مرات ومرات كان ذلك هو الخروج المؤقت الذي لايعني شيئاً سوى أنك ستعود إليه بعد حين من الزمن ، وحتى الذين لم يعودوا أبداً منذ آخر خروج لهم رحلوا وتركوه واقفاً هناك ليمارس طقوس افتقادهم .. افتقاد أصوات تهمس بالتسبيح والاستغفار في سكون الفجر وهدير لحظات المغرب يفتقد أجسادهم وهي تتكئ على الأرائك لتشيع الحب بالدعاء والابتسامات ونظرات تقول ما لا يقال في كثير من الأحيان . نعم كان يفتقدهم ويتساءل عن سر الغياب الطويل لأصواتهم التي غابت تردداتها صوت منيرة في أرجاء البيت تغني لحفيد يحظى بتدليلها له أو صوتها وهي تنادي .. يا بنات عندما يكون الخبر أو الأمر موجهاً للجميع ويفتقد هيبة الصمت الذي يجلل عبدالله ذلك الصمت الفاخر الذي يغزل حول صاحبه هالة من نور حين كان يبقى لساعات في ركنه الركين يتابع بصمت ويبتسم بهدوء . كانت ابتسامته تقول كل كلمات الرضا والحب وكانت نظرته تفصح عن غضبه وتبرمه اذا غضب ويكفينا في كثير من الأحيان أن نقرأ زوايا فمه ونظرة عينه لنفهم ما لم يقله يوماً . وهو بذلك يختلف كثيراً عن منيرته التي تسمع صوتها ببعض (الشيلات) في المطبخ أثناء الطهي أو تفاجئك بعد حدث ما بحكاية تسردها لك وتتبعها بقصيدة . كانت تتحرك وتحرك من حولها بحيوية وحب وشعر وغناء . كان وما أكثر ما كان في ذلك البيت ..تعالت ضحكات ورقصت خطوات، وارتفعت أحلام ونُكِست أحلام ،وتنفست آهات وشرقت أخرى بالدموع . هناك عرفنا بكاء مواليدنا لأول مرة وهناك نال كل واحد منهم دلاله وحبه من جديه . هناك كان العيد أكثر بهجة فلونه يتجمل بحضورهم والبخور له رائحة مختلفة تستمد قوتها من وجودهم فكأنها كانت تنبعث من مواطئ أقدامهم . وهناك ذقنا مرارة رحيلهم إلى الأبد . ثم جاء يوم أخير لحظة أخيرة ترمي بكل حجر من ذلك المكان إلى حيث لا أدري مجرد بقايا بناء ما في مكان ما مر به من مر وعاش به من عاش . مكان لا يعني أي شيء لذلك الرجل رفع فأس شاحنته وراح يضربه في كل مكان ضربه ليحوله إلى كومة أحجار ولم يعرف أن بعضها كان حيث شربنا القهوة بين عيون عبدالله ومنيرة وبعضها حيث تناولنا سحور أول ليلة رمضانية عاماً بعد عام وحيث احتضنا الأفراح وتملصنا من أحضان الخيبات . عندما مررت بقربه ذلك اليوم رأيته يدك وقد تهاوى الجزء الأكبر شهقت .. لا لم أكن أنا من شهقت كانت روحي هي التي فعلت رأيتها تضع يدها على فمها لتمنع صرخة وتحولها لشهقة بلا صوت وتسلب الأحرف من اللسان . رأيتها تبكي بلا دموع شعرت بالشفقة تجاهها أردت أن أضمها ولكني غصت معها في غيبوبة الوجع الذي جدد كل شيء وأعاد كل اللحظات في لحظة خاطفة ياله من اختصار غريب لسنوات طويلة في كومة أحجار ما عادت تعني شيئاً فكل ما كان يحدث بين الجدران تكوم أيضاً في الذاكرة نخرجه من حين لآخر نقلبه كألبوم صور من أول صفحة في القلب إلى آخر صفحة في الذاكرة. Twitter: @amalaltoaimi