عندما تناهى إلى مسامعي خبر وفاة الأستاذ سعد بن عبدالرحمن الدريبي، تداعت إلى الذاكرة أحداث كثيرة عشتها مع الراحل «رحمه الله وأسكنه فسيح جناته»، منذ أن تعرّفت عليه وأنا لا أزال على مقاعد الدراسة الابتدائية، وكان حينها مدرسًا في المرحلة نفسها، ونحن من قريتين متجاورتين الجشة والجفر، وكنا نذهب إلى الجفر مشيًا على الأقدام، ولأن بداياته في الكتابة قد سبقت بداياتي.. لذلك كنت حريصًا على التعرّف عليه في تلك الفترة المبكرة من العمر، وكان ذلك في بداية التستينيات الميلادية من القرن الماضي، وتوثقت صِلاتنا فيما بعد، عندما انتقلنا للعمل في الدمام، واحتضنتنا جريدة (اليوم)، حيث عملت بها، بينما هو اكتفى بالكتابة فيها، مفضلًا العمل الحكومي على العمل الصحفي، وفي تلك الفترة أصدر كتابه "فتاة الجزيرة العربية" وهو أول كتابٍ في تاريخ التأليف في بلادنا يدعو إلى عمل المرأة، مع دعوته للمحافظة على خصوصيتها وعاداتها وتقاليدها، وكان قد ظهر في تلك الفترة كتاب "مكانك تحمدي" الذي ألّفه أحمد محمد جمال، داعيًا إلى بقاء المرأة في المنزل وعدم خروجها منه للعمل، وكتب من كتب أن كتاب الدريبي هو رد مباشر على هذا الكتاب ومثله كتاب محمد أحمد با شميل "لا يا فتاة الحجاز"، ويمكن القول إن الدريبي من أنصار المرأة، والمدافعين عن حقوقها، والمجابهين بشجاعة لكل مَن يحاول هضم هذه الحقوق التي فرضتها الشريعة الإسلامية، وله قصائد مطوّلة في شؤون المرأة، عن الأسرة والزواج والطلاق والتعدُّد، وقد انتصر للمرأة في كل ما كتب شعرًا أو نثرًا، ودعا إلى فتح فرص العمل أمامها، لتسهم في البناء الوطني، والتنمية الشاملة، في وقتٍ لم يكن فيه هذا الطرح من الأمور المحمودة، مما عرّضه لكثير من النقد. وفي عام 1966م سافرنا معًا إلى دمشق، حيث طبع هناك كتابه "هذه الحياة" وطبعت كتابي "أحاديث في الأدب" وفي دمشق عشنا أيامًا جميلة في ظلال الأدب والفكر، وكانت حركة الترجمة في دمشق حينها في أوجّ عنفوانها، حيث تمّت ترجمة الكثير من الأعمال الروائية والفكرية المكتوبة باللغة الإنجليزية، ثم سافرنا إلى بيروت للبحث عن مطبعة كان الشاعر عباس مهدي الخزام قد أوكل لها مهمة طباعة بعض كتب الدريبي، لنكتشف أن كتابًا واحدًا فقط قد أنجز منها، مع أنها ثلاثة كتب أرسلها الدريبي مع الخزام، وطالبه بعد ذلك بأصول الكتابَين المفقودَين، ولم يعثر لهما على أثر، وقامت بين الاثنين خلافات وصلت إلى المحاكم، ولأني صديق للاثنين، فقد حتم عليّ الواجب أن أحاول الصلح بينهما، لكن دون جدوى، فلا أصول الكتابَين تمّ العثور عليها، ولا تكاليف الطباعة تمّت استعادتها، رحم الله الدريبي والخزام، فقد أفسدت هذه الخصومة علاقة كانت جميلة بين الاثنين. ومما يُذكر للراحل الدريبي أنه أسهم في الريادة الصحفية في المنطقة الشرقية، عندما أصدر مجلة "القبس" التي لم يُقدّر لها الاستمرار حيث صدر منها عددان ثم توقفت، نتيجة الظروف المادية والطباعية في تلك الفترة، وكان ذلك في أوائل السبعينيات الميلادية من القرن الماضي، وهي مجلة ذات مواضيع أدبية شعرًا ونثرًا، وللراحل العديد من المخطوطات الشعرية والنثرية التي لم ترَ النور، وقد حاول نشرها إلكترونيًا، وظهر بعضها في مدوّنته على الإنترنت المسماة "السعديات". رحم الله الدريبي فقد عاش بهدوء، ورحل بهدوء، بعيدًا عن الأضواء التي لم يهتم بها كما اهتم بها غيره.