في مؤسَّسات العالَم العربيّ، هناك علاقة حَمِيمِيَّة بين كُرسيّ المنصِب ومن يَجلسُ عليه. علاقةٌ قد تَصل أحياناً إلى ما يُشبه الزواجَ الكَاثُولِيكيّ المؤبَّد، فكأنَّه ارتباطٌ لا يُنهيه إلا الموْت. ربما كان للنَّظرة الاجتماعية السائدة دورٌ في تَشكُّل وانتشار علاقات العِشق والهِيَام الطويلة بالكراسي، فمن يستَقل من المنصِب، لا يَحظَ اجتِماعياً بنظْرَة احترام، لأن استقالتهُ قد تُفسَّر بأنها سلوكٌ انهزاميٌّ، وانسحابٌ لا يَليقُ بالقَادَة والفُرْسان. فالمنصِب، في أعيُن الناس، ذاب في شخصيةِ صاحبهِ وأصبح شيئاً منها، مُلتصِقاً بمكانتهِ الاجتماعية، والتنازلُ عنه بالاسْتِقالَة، قد يراه الناسُ تنازلاً عن شيءٍ من ذاتِ صاحِبهِ. إن الاسْتِقالَة هي أشْجعُ خُطوةٍ يُقِدم عليها أيُّ مسؤولٍ عند إخْفاقِه أو حُدوث خَطَأٍ فادِحٍ تحتَ إدارتِه، أو حتى عند عجْزهِ عن تحقيقِ أية نتائجَ ملموسة لأيِّ سببٍ كان. والاسْتِقالَةُ ليست عَاراً أو عيْباً كما يَتصوَّر بعضنا؛ بل هي أُسلوبٌ إداريٌّ راق جداً، وتقليدٌ ديموقْراطيٌّ عَريقٌ للتعبير بجُرأة عن تحمُّل المسؤولية وتَبِعاتِها، ومَنْح الفُرصة لآخرين قد يكونون أجدْرَ وأكثرَ قُدرةً على تحقيق التغيير المنشودلكنَّ النظرةَ للاستقالة لا يجبُ أن تُغلِّفها النَّرْجِسيَّة أبدًا؛ فالمنصِبُ شيء، وشخصيةُ صاحبهِ شيءٌ آخر. الكراسيُّ مُتحرِّكةٌ، والأشخاص مُتغيِّرون، ومُتفاوتونَ في قُدراتهم، وفي الظروفِ المُحيطة بفَترة عمَلهم. وأفضلُ شخصٍ في لُعبة الكراسيِّ المُتحرِّكةِ هذه هو القَادِر على إحداثِ أكبرِ قدْرٍ من التغيير الإيجابيِّ خِلال مُدَّة جُلوسه. كما أنَّ المُستقيلَ ينبغي النَّظرُ إليه باحترام باعتبارهِ قدَّمَ كل ما لديه، ووصلَ إلى مَرْحلةٍ لا يُمكنه بَعْدها تقديمُ المزيد، لذا تنازَلَ عن المنصِب لشخصٍ آخر بأفكار جديدة. إنَّنا حَالياً في أمسِّ الحَاجة في مُنظَّماتنا ومؤسَّساتنا الإدارية العربية إلى مفكرين إداريين يتجرؤون على الغُلوِّ في نظرتنا الاجتماعية للمناصِب العُليا، من أجل تحْريم الارتِباطِ بها ارتِباطاً جَائراً دائماً لا خُلْعَ فيه، وتشريع بَدائلَ أُخرى كالاسْتِقالَة، والحَضّ عليها، خُصُوصاً عندما تَبْدأ الأُمورُ في التَدَهْوُر. إن الاسْتِقالَة هي أشْجعُ خُطوةٍ يُقِدم عليها أيُّ مسؤولٍ عند إخْفاقِه أو حُدوث خَطَأٍ فادِحٍ تحتَ إدارتِه، أو حتى عند عجْزهِ عن تحقيقِ أية نتائجَ ملموسة لأيِّ سببٍ كان. الاسْتِقالَةُ ليست عَاراً أو عيْباً كما يَتصوَّر بعضنا؛ بل هي أُسلوبٌ إداريٌّ راق جداً، وتقليدٌ ديموقْراطيٌّ عَريقٌ للتعبير بجُرأة عن تحمُّل المسؤولية وتَبِعاتِها، ومَنْح الفُرصة لآخرين قد يكونون أجدْرَ وأكثرَ قُدرةً على تحقيق التغيير المنشود. كما أن الاسْتِقالَة قد تكونُ أصْدقَ رسالة اعتِذار، خاصةً عند حُصول تقصيرٍ أو إهْمَال. وزيرُ الخارجيَّة الكَنَدي، «مكسيم برنيه»، استقالَ من منصِبه في مُنتصَف عام 2008م، بسبب نسْيَانِه وثائقَ سرِّية في شِقَّة صديقَتِه، التي كَشَفَت عنه بغباء لإحدى قنَوات التلفزيون. وأصدَرَ بعد ذلك رئيسُ الوزراء الكَنَدي ستيفن هاربر بَياناً رسْمياً جَاء فيه: «لقدْ علِمَ الوزيُر برنيه بأنه ترَكَ وثائقَ حكوميَّة سِرِّيَّة في مَوقِع غير آمن، وهذا خطأٌ بالِغ. وقد قَبِل بمسؤولياته وعرَضَ اسْتِقالتهُ على الحُكومة». وتابع رئيسُ الحُكومة قائلاً: «الأمرُ لا يتعلقُ بالحياة الخاصة للوزير، بل الأهمُ هُنا هو أن قواعد احترامِ الوثائق الحكوميَّة السِّريِّة قد نُكِثَ بها». إذاً الاسْتِقالَة وسيلةٌ مهنيّةٌ راقيِةٌ للاعتراف بالأخطاءِ وإظهارِ النَدم على ارتِكباها، والحرصِ على عدَمِ تكرارِ حُدوثها. وفد تكون أيضاً شهادةَ اعتِرَاف للمسؤول الأعلى بأنه لم يُحسنِ الاختيار أو التقدير، وعليه إصلاح خطَئِه. كما أن الاسْتِقالَة، سواء نبَعَت من دوافِع شخصيِّة أو ضُغُوط خارجيَّة، وُضِعَتْ لحِماية المنصِبِ من التَّعدِّي عليه، فهي ك«البِطاقة الحَمراء» في كُرَة القَدَم، تُحفِّز اللاَّعبينَ دَوماً على التقيِّد بقواعِد اللُّعبة وأخلاقِها. لكنَّ الاسْتِقالَة، وإن قُوبِلَتْ باحتِرام، إلا أنَّها يَجبُ ألاَّ تُعفيَ المسؤول قانونياً عمّا حدَثَ إبَّان عهدِه. وفي الاسْتِقالَة، على مرَارَتِها، جانبٌ مُشرِق يُغفَل عَنه، فقد تكون نافذةً للمُستقيل تفتح له آفاق التغيير الإيجابي والتنْفيس باستكشاف فضَاءات مُتَنوِّعة وفُرَص جَديدة، تَجِدُ النَّفسُ فيها راحَتها وطَريقها نَحو الإبْداع. ولكنّ الاسْتِقالَة في أغْلَبِ أشْكالِها وليدة يأْسٍ وإحْبَاط؛ يأسٌ من تغيير الحَال إلى أحْسن، فلا أفضلَ مِمَّا كان، وإحباطٌ من سُوء الأوضَاع المُحيطةِ أو تردِّي النتائجِ أو تَتَالي الأخطاء وفَدَاحتِها. فمعَ أنها مُجرَّد وَرَقة، إلا أنَّ تْحرِيرَها صعبٌ على النْفسِ، لِذا لا غَرَابة في أن يُوصَف مُقدِّمها بالشَّجاعَة؛ حيثُ إنها وثيقة اعترافٍ بانعدامِ القُدرةِ على التَّغيير نحو الأفضلْ، وتنازلٌ عن التَّكليفِ والتَّشريف، وقُبولٌ بتذكرة عوْدة من المنصِب العالي إلى المقعَد العادي. تخيَّل مثلاً أنكَ كنتَ يوماً تقودُ بفخر طَائِرة رُكَّاب ضَخْمة، ثم عُدْتَ فجأةً إلى مقْعدٍ عاديٍ مع بَقيِّة المُسافرينَ في مُؤخِّرة الطَائرِة! إنه شُعورٌ يَصعُبُ تَقبُّلُه بسُهُولة، خُصوصاً في مُجتمَعات تنظرُ إلى «النُّزول من أعلى» نَظرةَ ريبةٍ مُغلَّفةٍ بالعطْفِ حيناً، وبالشَّمَاتة أحياناً. ألمْ يَطْرُق مَسامِعنا مِراراً قولُ بعضِنَا: «ارْحَموا عَزيِزَ قَوْمٍ ذَلّ!». [email protected]