يروى أن التابعي الزاهد «عبدالله العُمري» كان إذا خلا بالإمام مالك بن أنس حثه على الزهد، وكتب إليه ذات مرة فحضه على اعتزال الناس والانقطاع عنهم.. وكتب إليه الإمام مالك قائلا له: «إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرب رجل فتح له في الصلاة، ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الجهاد.. ونشر العلم من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فتح لي فيه، وما أظن ما أنا فيه دون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر». إذا كان الناس يختلفون في العبادات فالواحد يتميز في جانب من الطاعات دون الجوانب الأخرى، كذلك يتفاوتون في الدنيا ومجالاتها.. فالشاعر الذي يبدع في الشعر قد يخفق في الإلقاء.. والكاتب الذي يبهرك بنظم قطعة نثرية ربما لا يحسن الخطابة، وخطيب يطربك وتهزك خطبه لكن ذلك الطرب لا يظهر في الكتابة.. تميزك في مجال لا يعني تميزك في كل الجوانب، وأيضا فشلك في جانب ليس معناه فشلا وإخفاقا في كل الجوانب. الشيخ «سيبويه» النحوي المشهور، كان مع فرط ذكائه وعبقريته يعاني حبسة في كلامه.. لأنه كان إذا كتب يجري الكلام بين يديه كأحصنة السباق، ولكنه إذا تكلم لا يتأتى له ما يكتبه بقلمه.. ومثله الشاعر أبو تمام كانت لديه حبسة في لسانه إذا تكلم، وقد أثرت هذه الحبسة في نطقه إلى درجة هجاه شاعر بسببها. مثال آخر الشاعر الرائع أحمد شوقي أمير الشعراء، كان ضعيفا في إلقاء قصائده لدرجة أنه كان يعطي الآخرين ليلقوا قصائده نيابة عنه.. تصور شاعرا نابغة لا يستطيع الإلقاء! حسان بن ثابت شاعر الرسول عليه الصلاة والسلام.. كان لا يحب خوض المعارك، فلم يشتهر بمجاهدة الكفار بسيفه لكنه جاهدهم بلسانه.. قال له الرسول: «اهجوا قريشا فإنه أشد عليها من رشق النبل»، وكان هناك شعراء مهيؤون للدفاع عن الإسلام ككعب بن مالك وعبدالله بن رواحة وحسان بن ثابت، والنبي أرسل إلى كعب وإلى ابن رواحة ولكن هجاءهما لم يرضِه حتى جاءه حسان الذي قال: «والذي بعثك بالحق لأفرينهم بلساني فري الأديم»، فرد النبي: «لا تعجل فإن لي فيهم نسبا» أي حتى لا يصيب هجاء حسان لقريش نسب الرسول، فقال حسان: «والذي بعثك بالحق لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين». في الأخير.. نجاحك في مجال لا يعني نجاحك في كل الفنون والمجالات، وضعفك في جانب لا يعني ضعفك في كل المجالات، هكذا هي المواهب وهكذا هي الحياة، وها هي الأمثلة أمامك فاطمئن لست وحدك!