يجني شداة البلاغة من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم رحيق أزهار الفصاحة والبيان، فهو -صلى الله عليه وسلم- إمام البلاغة وسيدها، وهو المؤصل لها، فهو الذي يقول: «إن من البيان لسحرا» وقد حفلت أحاديثه وسيرته صلى الله عليه وسلم بالعديد من المواطن التي يمكن تلمس بلاغتها، وسحر بيانها، ولعل من ذلك رسمه- صلى الله عليه وسلم- لمنهج شعرائه في هجاء الكفار والمشركين، حيث كان هجاؤهم منظما ومخططا، راعوا فيه مظاهر القوة الحجاجية، وتلمسوا فيه مواطن التأثير والإقناع؛ حتى لا يكون للمشركين طريق يعودون من خلالها إلى ردّ الكرّة بالهجاء، فيقطعوا بذلك عليهم خط الرجعة؛ ولهذا لم تشتهر أهاجي المشركين في المسلمين، في حين ذاع صيت القصائد المجلجلة في ذم الكفار، وتنوعت الأشعار على لسان حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبدالله بن رواحة، وغيرهم من شعراء الدعوة رضوان الله عليهم. والمتأمل في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في كتاب (فضائل الصحابة رضوان الله عليهم) رقم2490 يلمح فيه البعد التداولي في أزهى صوره، فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اهجوا قريشا، فإنه أشد عليها من رشقٍ بالنبل، فأرسل إلى ابن رواحة فقال: اهجهم فهجاهم، فلم يرض، فأرسل إلى كعب بن مالك، ثم أرسل إلى حسان بن ثابت فلما دخل عليه قال حسان: قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذنبه ثم أدلع لسانه فجعل يحركه فقال: والذي بعثك بالحق لأفرينهم بلساني فري الأديم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تعجل؛ فإن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها، وإن لي فيهم نسبا حتى يلخص لك نسبي، فأتاه حسان ثم رجع فقال: يا رسول الله قد لخص لي نسبك..» الحديث. إن التهديد والوعيد، والتخويف والترهيب من أهم الأغراض الحجاجية؛ لذلك كان صلى الله عليه وسلم يوجه شعراءه بأن يتصدر الأمثل منهم لتنفيذ هذا الغرض بالحجة والإقناع، حتى وجد في حسان رضي الله عنه ضالته، ومع ذلك لم يعجل، وأمر حسانا بأن لا يعجل أيضا؛ لأنه لم يكن يهدف إلى الهجاء في حد ذاته، بل كان يريد لهذا الهجاء بأن يكون موجعا ومقنعا ومؤثرا ومن هنا أمر صلى الله عليه وسلم حسانا بالتريث، كما رسم له منهجا واضحا، وخطة بيّنة؛ حتى لا يقع في الخطأ، أو ينزلق إلى ما يؤخذ عليه، فأكثرُ كفار قريش هم من ذوي قرابته صلى الله عليه وسلم ولهذا حدّد الرسول له- بعد استشارة أهل الاختصاص- ألا ينطلق إلا بعد تثبّت ودراية. ومن هنا كان توجيهه صلى الله عليه وسلم ناجعا في ضرب الكافرين بسهام موجعة، واستشفاء صدور المسلمين منهم، فقد راعى في توجيهه هذا ضرورة التعرف على أحوال المخاطبين، وأقدار عقولهم، ومراعاة المقام، بل نلمس هذا المنهج النبوي حتى في النصح والوعظ كما في قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه لما بعثه إلى اليمن: «إنك تأتي قوما من أهل الكتاب...». ولقد سعى البلاغيون إلى تأكيد ذلك فقال الجاحظ في (البيان والتبيين): «ينبغي للمتكلم أن يعرف أقدار المعاني، ويوازن بينها وبين أقدار المستمعين، وبين أقدار الحالات» ونبه ابن قتيبة في (أدب الكاتب) على ضرورة أن تكون الألفاظ على قدر الكاتب والمكتوب إليه، بل أكد القاضي الجرجاني في (الوساطة) على الأهمية التداولية للتهديد والوعيد بوصفهما غرضين حجاجيّين فقال: «بل يجب أن يكون كتابك في الفتح والوعيد خلاف كتابك في التشوق واقتضاء المواصلة، وخطابك إذا حذّرت وزجرت أفخم منه إذا وعدت ومنّيت» لذلك حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على فخامة الهجاء، وألا يصدر إلا قويا. وهذا أصل من أصول التداولية الجديدة التي تسعى- في دراستها للغة، وتحليلها للخطاب- إلى الكشف عن الآثار النفسية، والمعرفية، والاجتماعية، والتاريخية، وما يتصل بتحليل الأفعال الكلامية، والتواصل الحواري، ومتضمنات القول، وأنواع الحجج ومستوياتها ودرجاتها.