تحدثنا فيما مضى عن ثقافة الممانعة العقلية والمجتمعية وأهميتها ودورها في الحفاظ على هوية المجتمعات وحمايتها من الانخراط في الثقافات المضادة لنسيجها القيمي وإطارها الديني وتراثها الاجتماعي.. ونحن هنا نؤكد على أننا لا نعني بثقافة الممانعة الرفض التام للمستجدات والممانعة العصية للمستحدثات بقطع النظر عن فائدة هذا الجديد أو المستحدث وأهميتهما في تنشيط فعاليات هذه المجتمعات، أو إيقاظها من بلادة الركود، وانتشالها من النمطية والتبعية والجمود. لا نعني بذلك مشابهة أقباط مصر الفراعنة لطاغيتهم الفرعون والذين وصفهم السياق القرآني في ركودهم العقلي واستسلامهم الذهني وبلادتهم الفكرية بقوله تعالى:{فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين} فامتناعهم هنا عن رؤية الحقائق الكونية من حولهم التي تؤكد معاني الربوبية لله تعالى واختصاصه سبحانه بها قادهم إلى الانحدار لمستوى الاستخفاف بعقولهم والتلاعب بمعتقداتهم وليست تلك هي ثقافة المناعة والتحصين المرغوبة. وتاريخنا الإسلامي يزخر بالنماذج التي تعمق معاني الاستقاء من الحضارات والثقافات الأخرى بما لا يتنافى مع قيمنا وثوابتنا العقدية، وما فكرة حفر الخندق حين أحاط الأحزاب بالمدينة النبوية من كل الجهات إلا مثال فريد على ذلك، حيث إن العرب لم تكن تعرف حفر الخنادق في خططها الحربية واستعداداتها العسكرية..هذا على الصعيد العسكري، وعلى الصعيد الشخصي والاجتماعي مثال آخر عند احتضار فاطمة بنت محمد رضي الله عنها وصلوات الله وسلامه على أبيها وآله حيث أشارت عليها أسماء بنت عميس رضي الله عنها بما رأته من صنيع الحبشة بنعوش موتاهم فكأنها استحبت الفكرة وأوصت من حولها بفعلها لها بعد وفاتها حياءً منها رضوان الله عليها. إن ثقافة الممانعة التي لا ننادي بها هي تلكم التي تتخذ الخطاب السلطوي سادنا على مقدرات الأمة ومكتسباتها، الخطاب الذي يعيق التقدم في الحراك الشبابي ليحافظ على مركزيته ويلغي فنون الحوار مع الآخر ليفرخ بذلك التطرف والإرهاب الفكري، وتطغى عليه الروح الفردية وضعف الوعي والالتزام الجماعي، ما يولد شعورا حادا بالإحباط واليأس والتشاؤم الدائم وتوقع الأسوأ في كل تجربة جديدة مما يقضي على جذوة الاندفاع عنده. إن ترسيخ القناعات لدى الشباب بخيرية هذه الأمة على الإطلاق وأنها ليست بحاجة للاعتماد على ثقافات الأمم والشعوب الأخرى لتنهض من جديد لأمر بالغ الضرورة لتوثيق ثقافة الممانعة المجتمعية والمناعة الفكرية والتحصين القيمي. إن انتشال تلك الشريحة المجتمعية العظمى من وحل الشعور بالهزيمة النفسية والتبعية المقيتة والتقليد المطلق المذموم والعمل الجاد مع السعي الحثيث لاستعادة مشاعر الاعتزاز بالمنطلقات الروحية والثقافية والاجتماعية والأخلاقية للأمة والاكتفاء والاستغناء بها بما لا يتعارض مع مواكبة مستجدات العصر لهو مربط الفرس وبيت القصيد الذي ينبغي أن تخصص له المخصصات وتفرد له المقررات وتُخَصّ به المناهج والدراسات. [إن الأمة التي تحمي قيمها من الانتهاك الحضاري لابد أن تضمن أن ممانعتها لن تجعلها في مؤخرة الركب، لأنه حين تقنع الأمة أن موروثها أو جزءًا منه يقعد بها عن ميدان السباق فإنها تلقيه عن كاهلها تخففا حتى تلحق بركب الباقين](1). * (1):اقتباس من كتاب:الممانعة المجتمعية للكاتب:محمد إبراهيم السعيدي.