تشكل ثقافة الممانعة صفائح صلبة تغطي سطح الذهن فتعجز أدوات وآليات التفكير السديد من النفاذ إلى العقل بفعل تراكم المصدات الثقافية التي تُنشئها طرائق التلقين في المدارس والجامعات وغيرها، فالوعي المحلي كجزء من الثقافة العربية السائدة التي تعتمد حتى الآن أسلوب الممانعة تحت ستار رفض الذوبان في القرية الثقافية الكونية. يجد هذا الوعي دعماً قوياً له في النظم التربوية والأكاديمية السائدة والتي تمنع الارتقاء بالخطاب الثقافي المحلي إلى مستوى تكريس الانفتاح على الأفكار التي تؤكد حقوق الإنسان، والحريات الخاصة والعامة. من عادة بعض المجتمعات التي تتميز بالمحافظة والخصوصية رفضها التام للجديد، وممانعتها العصية للمستحدث بقطع النظر عن فائدة هذا الجديد أو المستحدث وأهميتهما في تنشيط فعاليات هذه المجتمعات وتفعيلها، أو إيقاظها من بلادة الركود، وانتشالها من وهدة التقليد والاتباع والجمود. وثقافة الممانعة ينتجها خطاب مؤسساتي مركزي، له حضور طاغٍ في المجتمع المحافظ الذي يعتبر هذا الخطابَ بأنه السادن على مقدراته ومكتسباته وعلى هويته، وأنه الأبُ الوصي عليه، فهو بحقٍ خطاب سلطوي، يعيد بتكرار طويل صوغ سمات المجتمع ذاتها ويكفل إبقاءها كما ورثها عن أجداده وماضيه، وموروثاته بكل سلبياتها وإيجابياتها وللحفاظ على مركزيته؛ فإنه خطابٌ يعتمدُ كثيراًعلى آليات تعزز من سيادته وبقائه قدر الإمكان كفاعلٍ ومحركٍ في نسق الذهنية العامة للأفراد والجماعات، وكمسيطر على كافة مناشط وفعاليات المجتمع. وهذه الآليات هي التي تضمن له البقاء والسيادة، بفضل ما لديها من قدرة تقويضية تستهدفُ أي إمكانية للتطور والحراك الفاعل خارج إطار هذا الخطاب الذي توّج نفسه، وقدمها على أنها المؤهلة للقيادة في النهوض وحل الأزمات الطارئة، الذي رفض بدوره القيام بمثل هذه المهمة، أقصد مهمة التطور والتجديد، بمحاولة تشويهها والالتفاف عليها؛ لأنه يدركُ مخاطرها في زحزحة مكانته وسيادته على الوعي العام والخاص. إن ثقافة الانغلاق والأبواب المؤصدة والجدران العالية والاحتماء بوهم الخصوصية والهوية أو ثقافة التحصين والخوف والاحتراز والتقوقع إن هي إلا ثقافة عنصرية بغيضة تمارس الإرهاب الفكري تعيش في الظلمات وتعشعش في عقول المتطرفين والمتعصبين الذين يعانون من إفلاس ثقافي وغير قادرين على الإبداع وتجاوز الذات أو محاورة الآخر، ومن متلازمة ثقافة الانغلاق إنتاج إنسان يتعصب للأُطر الضيّقة ويتساهل تجاه الإطار الوطني العام، وتطغى عليه الروح الفردية وضعف الوعي والالتزام الجماعي، ديمومة المناكفة وشعوره الحاد بالإحباط واليأس وفقدان القدرة على المواصلة، تشاؤمه الدائم وتوقع الأسوأ في كل تجربة جديدة مما يقضي على جذوة الاندفاع عنده، وفقدانه للواقعية لحساب مثالية مفرطة أو حالمة. ويترصد العقل الصفائحي كل انبعاث جديد في المشهد الثقافي، فيتابع الأنشطة والإصدارات والمقالات لا لكي يتعلم أو يحاور أو حتى يفنّد، بل لكي يعترض ويتمنّع فقط، ويسعى وبشكل متواصل للتحكم بالمناشط الثقافية بكافة تشكلاتها، التي توجه دفةَ المجتمع، لعلمه بأهميتها كمحتكرٍ لوسائل التواصل مع أفراد المجتمع وتشكيل وعيهم والتأثير عليهم، مما يضمن له إحكام السيطرة على زمام الأمور، وممارسة دوره دون ضغوط أو عقبات، ولكي يفرض وجوده، وانطلاقاً من دوره كحامٍ لهذه المكتسبات، فإنه يتوسل بالمقدس لدى هذا الوعي والثابت أو المركز الذي قام عليه؛ مما يخوله بعد ذلك إلى قمعِ ما يراه يشكل تهديداً لهذا المقدس أو الثابت الذي ينتظم تلك المرتكزات العامة، ويعد الأساس الذي يربطها بمصيره ودوره. ولتكريس سلطته؛ تراه يشرع في محاربة التجديد وتغيير الواقع اللذين يعدان في الأساس انقلاباً على السائد وثورة على الثبات والسكونية، ويبدأ في مناهضة الإجراءات التي تقوم عليها فعاليات التجديد والتغيير الممثلة بتيارات أو اتجاهات رؤيوية أو أفكار، لما تتضمنه هذه الإجراءات من آليات مباينة لآليات الخطاب المحافظ التي يتخذها ذرائع لنشر ثقافة الممانعة والجمود التي تحفظ بقاءه. وانطلاقاً من هذه الذرائع التي يتوسل بها الخطاب المحافظ، وأهمها المحافظة والثبات؛ فإنه يجيش كل قواه لدحض أي رأي ينحو منحى تجديدياً، ويقمع أي رغبة حثيثة لتغيير الواقع وتحريك الساكن (حيث إن السكونية تعدّ في الاعتبار الأول سبباً خطيراً لعرقلة الحركة والتقدم والنهوض)، ومن ثم يتبع هذا الخطاب الذي يمثل العقل الصفائحي المحافظ، وفي شكل مطرد، متواليةً من الخطوات النابعة في الأساس من صفته الجوهرية وهي النزعة الإبقائية الثبوتية، فيهاجمُ كل ما يطرحُه (الممكن التجديدي) من أسئلةٍ مثيرةٍ هي في لبها نقديةً تنبعُ من عقلٍ جدلي، لا يكفّ عن نبشِ المناطق المحرمة المتجذرة في يقينيةٍ مطلقةٍ، هي ذاتها المناطق التي يتربع على عرشها الخطاب التقليدي المحافظ الذي يصوغ المنطلقات الثقافية والروحية والأخلاقية للمجتمع، والتي ضمن بها سيادته وسلطته ونفوذه.