انتهيت للتو من قراءة كتاب بعنوان «متعلمة» (Educated) من تأليف تارا ويستوفر (Tara Westover) وهي مذكراتها الشخصية. لا أتذكّر قراءة كتاب بهذا التأثير منذ زمن بعيد، وقد يكون هو الكتاب الأكثر تأثيرًا عليّ على الإطلاق. هناك كتب ملهمة لأناس عاشوا صعوبات وظروفًا قاهرة ولكن هذا الكتاب يتصدّر أي قائمة لأفضل الكتب بالنسبة لي، حيث يتعداها بمراحل.. صفحة تلو الأخرى تخبئ القصص المروّعة والمفجعة، ولحظات التعثر والشك التي تبني منها شخصيتها. نشأت تارا في عائلة فقيرة مسيحية من طائفة المورمون، مُنعت من الدراسة في المدارس والعلاج في المستشفى. كابنة من ضمن سبعة أطفال سيطر والدها على كل ما تعلّمته. فلا حقيقة بعد حقيقته التي وإن استمدها من الدين إلا أنها كانت غاية في التشدد. إضافة إلى ذلك كان يعتقد أن الحكومة تتآمر ضده، وأنهم في خطر، وعند قرب الألفية الثانية ألزم عائلته بالاستعداد «لنهاية العالم» المحتم. كان والدها يملك الخردة، ويعمل مقاولًا واستعان بالأبناء وبها في العمل رغم صغر السن وقلة الخبرة وخطورة العمل.. الكتاب يحكي كيف أنه بسبب إهمال والدها واستعجاله في العمل تعرّضت هي وإخوتها لإصابات بالغة ومهدّدة للحياة. إضافة إلى ذلك كان أحد إخوتها يتأرجح بين الأخ اللطيف والمحب وبين الشخص الشرير الذي يستمتع بإيذائها وإهانتها وترويعها بشكل متكرر.. كل ذلك حدث تحت سقف واحد دون أن يتم التدخل من الأهل متغاضين عمّا يَرَوْن ليغيّروا التاريخ بنكران الواقع.. فالأسهل هو التظاهر بحقيقة أخرى، وتكذيب ذاكرة الضحية. الكتاب يتحدى مفاهيم أساسية لا يفكر فيها غالبنا ما دامت حياتنا تمضي ولا تصطدم بقوة مع ما لا نعرفه. فالغالب يعيش محتضنًا في أسرة وبيئة تتشارك معه المفاهيم، ومعنى الحياة وإن تواجهنا مع ما يخالفها يمكننا أن نعود بكل سهولة إلى كنف وأمان معتقداتنا دون أن نتأثر كثيرًا بما رأيناه مغايرًا لما نعرفه. يتطرق الكتاب لمفهوم الثقة العمياء التي يهديها الأطفال لآبائهم، والمسؤولية التي تقع على عاتقهم مقابل ذلك. كما أنه يتناول حاجة الإنسان للانتماء للعائلة والجماعة، وضرورة التعلق ب«حقيقة» يمكن التشبث بها لئلا يتهاوى الكيان بمجرد معرفة أن ما بُني عليه الشخص هو وهْم وسراب. استطاعت تارا أن تقتلع نفسها شيئًا فشيئًا من هذه البيئة بتشجيع أحد إخوتها، والمثابرة، فدخلت الجامعة رغم أنها لم تدرس يومًا في المدرسة. فقبول الجامعة اعتمد على امتحان واحد هو ال(ACT) وتدرّجت بأعجوبة وتعثرات كبيرة حتى أكملت البكالوريوس، وبعدها الماجستير في جامعة كامبريدج ببريطانيا، وأخيرًا الدكتوراة في جامعة هارفارد. كلّفها البحث عن نفسها والتصالح مع ماضيها أن فقدت عائلتها التي اعتقد جزء منهم أنها تحت سيطرة الشيطان، وإن كانت في رحلتها أيضًا كسبت جزءًا من عائلتها التي لم تكن مقرّبة منهم مسبقًا. الكتاب بسيط في كلماته، وعميق في معانيه. يبدأ بأسلوب وينتهي بآخر.. ففي أول الكتاب لم يكن لها صوت، بل كانت تسرد الوقائع المفجعة، وكأنها النشرة الجوية؛ ليظهر في آخر الكتاب صوتها بوضوح من خلال أخذ مواقف متعددة. ذكَّرتني تارا بأن علينا أن نُمتحن حتى نعرف مَن نحن، فما أكثر الذين يرددون الحكم والشعارات، ولا يعرفون معناها الفعلي. رغم صِغَر سِنّها عاشت امتحانات حياتية صعبة، وظهرت كبطلة ملهمة.