لا تزال الهجرة تعيد تشكيل المجتمعات على هذا الكوكب، ولن تكون الحواجز التي تقيمها الدول الغنية، قادرة على ابعاد هؤلاء الذين يأتون من الجنوب العالمي، وغالبا ما يكونون فقراء جلهم يائسون يأتون بحثا عن عمل وحياة أفضل. واذا كان المهاجرون يقدمون في كثير من الأحيان منافع اقتصادية للبلدان التي تستقبلهم، فهم يهزون أيضاً النظام السائد، ويجبرون دول العالم الصناعي ومجتمعاته على اعادة صياغة سياساتها. ودفعت الهجرة من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، أوروبيين لاستنفار الشارع العام ضد ما سموه الأسلمة والارهاب الاسلامي. وفي الولاياتالمتحدة، وعلى الرغم من وجود تاريخ طويل من الاختلاط الثقافي والديني والعرقي، إلا أن الاقلية البيضاء المتنفذة، خافت من فقدان وظائفها وامتيازاتها، ومن انقلاب الوضع الديمغرافي لصالح المهاجرين الجدد من اللاتين والأفارقة والآسيويين، الذين أضحوا بالفعل يشكلون أغلبية في بعض المدن الامريكية. والمفارقة هنا هي أن معظم المهاجرين من البلدان الفقيرة، لا يصلون أبداً إلى الولاياتالمتحدة ولا إلى أوروبا الغربية. وانما يستوطنون ويتم الترحيب بهم في دول نامية مجاورة لبلدانهم. ويثير الشعبويون في المجتمعات الغربية مخاوف المواطنين ويتجاهلون الأسباب الجذرية المسببة لأزمات الهجرة التي انفجرت الاسبوع الماضي في اليونان، ووصلت موجاتها الارتجاعية إلى معظم الدول الأوروبية مثل قنبلة موقوتة كانت تنتظر الانطلاق. وليست أوروبا وحدها، فالولاياتالمتحدة تعرضت هي الأخرى الى اضطرابات مماثلة بعد ادراك الأمريكيين أن العواقب الإنسانية لسياسة «عدم التسامح» التي انتهجها دونالد ترامب مؤلمة للغاية ولا يمكن تجاهلها. وأعطى جدل الجمهوريين والديموقراطيين في الكونجرس حول تعارض خطط إنهاء حبس الأطفال المهاجرين على الحدود المكسيكية الرئيس ترامب الاعتقاد بأنه يخاطب مخاوف الأمريكيين، وبنفس المنطق ازدادت شعبية وزير الداخلية الايطالي بعد حظره استقبال سفينة تنقل مهاجرين من ليبيا. وفي ألمانيا لم تستعد «أنجيلا ميركل» شعبيتها كما كانت قبل قرارها قبول 1.1 مليون لاجئ عام 2015. وتشير استطلاعات الرأي إلى أن حوالي ثلثي الناخبين الألمان يتفقون مع هورست سيهوفر وزير الداخلية المنافس لميركل على ضرورة فرض ضوابط صارمة على الحدود. وتشكل القوى السياسية القومية والشعبوية التي تستمد شعبيتها من كراهية الأجانب، شريحة مؤثرة وسط الجيل الحالي من السياسيين الاوروبيين. وكان ترامب قد فاز مثلهم عام 2016 بركوبه موجة ديماجوجيين استغلت مخاوف الطبقة الوسطى الامريكية. وتجاهل ترامب مثله ومثل العديد من السياسيين الأوروبيين، الأسباب الجذرية المعقدة للهجرة، ومنها مسؤولية الغرب عن العديد من حالاتها، فالحروب الأمريكية في أفغانستان والعراق وليبيا على سبيل المثال لا الحصر، والفشل الجماعي في وقف النزاعات في سوريا واليمن والصومال ودولة جنوب السودان كلها دوافع مبررة للهجرة، وقد زاد من تفاقم الازمة الأنظمة القمعية غير الديمقراطية وتراجع التنمية في بلدان طالبي اللجوء. ويضاف لهذه الأسباب، فجوة الثروة التي تزداد اتساعا بين الشمال والجنوب ولامبالاة الدول الغربية بالمحنة الاقتصادية في بلدان أفريقيا جنوب الصحراء وجنوب غرب آسيا وتأثير التغير المناخي والتلوث البيئي وانعدام الأمن المزمن الذي يكابده من يعيشون في مجتمعات فقيرة وغير مستقرة.