هناك من يملك القدرة على رؤية الأمور في صور الحياة المختلفة بطريقة واسعة تغطي معظم الأجزاء، وهناك من يعجز عن ذلك، فرؤيته لا تستطيع أن تتخطى زوايا أو مناطق محددة في قضاياها وأحداثها وتفاصيلها. الأمر لا يعود للوعي وطريقة التفكير فحسب، إنما هي ملكة في بعض الأشخاص تصقلها معطيات ثانوية تعزز منها، لكنها لا تخلقها.. وكل شخص يملك منظورا معينا في رؤيته، قد يكون واسعا أو ضيقا، وهو حر في ذلك ما لم يؤثر على الآخرين أو المحيطين به. الشخص الذي لا يحق له أن يكون حرا في ذلك هو الشخص المسؤول، فهو إما أن يملك القدرة، -بل والقدرة الفائقة على رؤية الأمور من كل زواياها- وإلا لا يصلح أن يكون مسؤولا صاحب صلاحية.. إن الصلاحيات الممنوحة للمسؤولين إذا استخدمت بأسلوب غير مدروس وغير مراع للمصلحة العامة، بكل جوانبها، فهي نوع من الفساد وإهدار الإنتاج والطاقة البشرية والمادية، الناتج عن قلة الدراية والتدبير، وليس الناتج عن دوافع المصلحة الشخصية أو سوء النوايا. إن حجم الاهتمامات لدى أي مسؤول، يفصح عن حجم وعيه.. كما أن القرارات المندفعة، المنفحة أحيانا بقدر من الغضب أو التراكمات مجهولة المصدر، -والتي تصدم بمصالح أي فئة في منظومة العمل أو المؤسسة التي يرأسها- إنما هي أفعال تقول وتعني الكثير، وهي تعلن بصوت عال للملأ أن صاحبها يحتاج لتدخل أعلى لحل سلطته.. أعتقد أن البعض من المسؤولين كبيرا كان أو صغيرا في سلطته، يعتمد أسلوب التضييق أو التعسير على الموظفين، هو بذاته يشكل خطرا بليغا على الإنتاجية، ويتسبب في إهدار كثير من الطاقات الإبداعية، بل ويخلق مشكلات جديدة في المنظومة التي ينتمي لها.. إن أبسط أهداف المسؤولية والسلطة في الوضع الطبيعي تتمثل في حسن الإدارة والتغلب على المشكلات، وإعطاء الحقوق والامتيازات لمستحقيها، بما يعود بالنفع على الموظفين وينعكس بشكل أشمل على الصالح العام.. لكن على ما يبدو أننا وصلنا لمرحلة لم نعد فيها ننشد المسؤول الفذ، القادر على الارتقاء وتحقيق توجهات المواطن والدولة، بل نرتجي أن يكون من يتولى المسؤولية من فئة، النمط الطبيعي غير الضار، الذي يتولى السلطة ويحقق الحد الأدنى من الاستقرار وعدم التراجع والإخفاق والإرباك.