كانت الكارثة التي أحاقت بمدينة جدة ثاني مدينة في بلادنا نتيجة للأمطار صادمة للوطن كله ، وأثارت غضب الملك عبدالله ؛ لأنها لم تحدث نتيجة للأمطار الغزيرة بل نتيجة للإخلال بالمسؤولية بعدم إنجاز المشاريع التي صرفت عليها الدولة مليارات الريالات ولم تنفذ ، غضبُ الملك كان باعثه التسيب والإهمال وإهدار الأموال ؛ لذا جاء الأمر الملكي بتشكيل لجنة للتحقيق في الكارثة معبراً عن حجم ذلك الغضب ، إذ كيف يعقل أن تحدث كارثة بهذا الحجم في دولة تعدّ من أغنى دول المنطقة ، دولة رصدت مليارات الريالات للمشاريع ولتأسيس بنية تحتية لجدة ولغيرها منذ ما يزيد على الثلاثين عاما ؟ فمن يبرر للملك وللمتضررين ولأهالي الضحايا وللمواطنين كافة ما حدث ؟ غضب الملك منشؤه - كما جاء في الأمر الملكي – أن ( مثل هذه الأمطار بمعدلاتها هذه تسقط بشكل شبه يومي على العديد من الدول المتقدمة وغيرها ، ومنها ما هو أقل من المملكة في الإمكانات والقدرات..)! انطلق الأمر الملكي من عنصرين على درجة كبيرة من الأهمية ، أولهما : الأمانة ( التي عاهدنا الله تعالى على القيام بها ، والحرص عليها تجاه الدين ثم الوطن والمواطن وكل مقيم على أرضنا ) ، وهذه الأمانة التي عاهد الملك الله عليها نابعة من رؤية الدين لمال الدولة ، الرؤية التي توجب أن يكون المال مصاناً من عبث العابثين ، وأن ينفق فيما صُرف من أجله ، وألا يكون للأفراد أيّاً كان موقعهم حقّ سلبه أو إهداره ، أو التسبب في ضياعه ، أو التستر على من يتسبب في ذلك ، وما الدولة إلا راعية له ! وثانيهما : المحاسبة (من المتعين علينا شرعاً التصدي لهذا الأمر ، وتحديد المسؤولية فيه والمسؤولين عنه - جهات وأشخاص– ومحاسبة كل مقصر أو متهاون بكل حزم ... من يثبت إخلاله بالأمانة والمسؤولية ..) فالمحاسبة من أقوى عوامل الضبط الاجتماعي على المستوى العام ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم - وهو الذي أرسل رحمة للعالمين - شديداً في محاسبة من يتولى أمراً من أمور المسلمين ، فقد أرسل رجلاً يجمع له الصدقات من بني سليم ، فلما رجع الرجل قال: (يا رسول الله هذا المال لكم ، وهذا المال أُهدي إلي ، فقال له : هلاّ جلست في بيت أبيك أو بيت أمك حتى تنظر ما يهدى إليك ! ثم قام في الناس خطيباً وقال: يا أيها الناس ما بالنا نرسل الرجل يجمع الصدقات فيرجع قائلاً: هذا لكم وهذا أهدي إلي، هلا جلس في بيت أبيه أو في بيت أمه حتى ينظر ما يهدى إليه ) ، أراد الرسول أن الرجل لو لم يكن مسؤولا وبقي في بيت أهله لم يهد ِ إليه أحد شيئا ، مما يعني أنّ ما أهدي إليه حقٌ من حقوق المسلمين . إن المحاسبة لا تسمح بأن يكون مال الدولة مستباحاً ؛ إذ لا يحق لأي مسؤول استغلال موقعه أو منصبه أو قربه لإهدار المال العام ، لأن مال الدولة في كل الأحوال هو مال المواطنين كافة ، ومن يخشَ المحاسبة والمساءلة فإنه لن يهدر هذا المال بصفته واحداً من المواطنين وليس بصفته مالكاً للمال الذي وضع تحت إمرته ؛ فحرمة المال العام أشد من حرمة المال الخاص ؛ وذلك لأن المال الخاص يمكن أن تُسوى قضيته بإبراء الذمة من صاحبه ، أما المال العام فلا تبرأ ذمته إلا من مُلاك ذلك المال وهم جميع المواطنين ، ولا يمكن التعويل على الدين والضمير والعرف والمواطنة دون أن يحكم قانون المحاسبة والمساءلة الجميع ، وعندها يصبح العقاب على الخطأ ، والثواب على الصواب هما اللذان يسيران دفة المجتمع . جاء في القرآن الكريم على لسان سليمان ( مَاليَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبيْنَ ، لأعَذّبَنَهُ عَذَابَاً شَدِيْدَاً أوْ لأذْبَحَنَّهُ أوْ لَيَأتِيَنِي بِسُلْطَان ٍ مُبِيْن ٍ ) فهدد بعقاب الهدهد إذا لم يستطع تبرير غيابه ؛ فالأمور لا تستقيم وتسلم من الشوائب والشبهات إذا لم يصحبها عقاب يُوقع على المخالف . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به ، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فشقّ عليهم فاشقق عليه " ، وليس أعظم مما وقع على مدينة جدة وأهلها من مشقة تسبب فيها من لم يرعَ ما أؤتمن عليه ! وانسجاما مع مبدأ الأمانة والمسؤولية من الملك ثم من المسؤول الذي أناط به الملك القيام بمسؤولياته ، ركّز الأمر الملكي على الأمانة بقوله تعالى ( إنّا عَرَضْنا الأَمَانَةَ عَلَى السّمَوات ِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فأبَيْنَ أنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَها الإنْسَانُ ، إنّهُ كَانَ ظَلُوْمَاً جَهُوْلاً ) ، وعلى المسؤولية بقوله صلى الله عليه وسلم " كلكم راع ٍ وكلكم مسؤول عن رعيته ".. جاء أمر الملك معبراً عن عظم شعوره بالمسؤولية تجاه ما حدث ، وهذا يذكرنا بقول عمر بن الخطاب : لو تعثرت بغلة في العراق لحاسبني الله عنها ، لِمَ لمْ تصلح لها الطريق يا عمر ! فكيف بمئات من الناس بين ميت ومفقود وخاسر لممتلكاته ، ووطن أُهدرت ثرواته فيما لا يعلم الملك كيف أهدرت وعلامَ كان ذلك الهدر ! فماذا سيقول أولئك المخلّون بمسؤولياتهم للملك ؟ وماذا سيقولون للناس المصابين بأهلهم وممتلكاتهم ؟ ماذا سيقولون لليتامى والأرامل والثكالى ؟ بل ماذا سيقولون لله يوم يلقونه ؟ إنه كلما زاد الإيمان زاد معه شعور المسؤول بعظم الأمانة الملقاة على عاتقه ، وكلما ضعف الإيمان ضعف مع ضعفه الشعور بالمسؤولية والحرص على أداء الأمانة ، قال تعالى ( والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون ) ، وقال صلى الله عليه وسلم: " لا إيمان لمن لا أمانة له ، ولا دين لمن لا عهد له " وروي عن أبي هريرة قوله : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة " ، قال : كيف إضاعتها يا رسول الله ؟ قال : " إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة " فهل كان أولئك المسؤولون غير جديرين بالأمر الذي أوكل إليهم ؟ لا ريب أن التحقيقات التي أمر بها الملك ستكشف عن الكثير ! نواجه منذ زمن ليس باليسير مشكلة الهدر المالي الذي يهدد خطط التنمية ، ومستقبل بلادنا وحق أبنائنا في غدد مشرق يسوده الرخاء والنماء ، كيف يجوز أن تضيع الثروات التي بلغت أرقاما فلكية توازي ميزانيات بعض الدول ، دون أن تُستثمر في الأوجه التي صرفتها الدولة من أجلها ، لذا جاء أمر الملك بالمحاسبة والمساءلة برداً وسلاماً على قلوب كثير من المواطنين الذين كانوا لا يرون إنجازاً للمشاريع يوازي ما رُصد لها من أموال منذ عقود ، فلا ينفكون متسائلين أين ذهبت تلك الأموال ؟! من المفارقات المحزنة أنّ أحلام البسطاء تصادرها دوما أطماع الذين يتبنون منطق النار التي ( كلما امتلأت قالت هل من مزيد ) ، أولئك الذين يهدرون أموال الوطن ولا يفرقون بين المال العام ومالهم الخاص حيث يتداخلان تداخلا عجيبا !.. وكلما تعاظمت مسؤولياتهم تلاشت معها المساحة الفاصلة بين العام والخاص ! حتى صار المال العام بقرة حلوباً تدر الأموال عليهم دون أن يراعوا الأمانة التي وضعها الملك في أعناقهم ، وذلك بلا ريب دليل على ضعف الوازع الديني، وعجز منظومة القيم التي تعارف عليها العقل وأقرها الشرع عن إعادة تشكيل وعي أولئك الأشخاص ، علاوة على غياب الحس الوطني الذي يعد الحفاظ على المال العام وصيانته جزءا لا يتجزأ من الوطنية ، فيتصرف بعضهم بما تمليه عليه نفسه المتضخمة بحب الذات ، حدّ اعتبار مصلحته فوق مصالح الآخرين ، وهي حالة من حالات التردي والاضطراب النفسي والقيمي ؛ إذ تطغى الأنانية والتفريط بالمسؤولية حتى يظن أن كل ما في عهدته من مال للدولة حق مشاع له ، وكل القوانين إنما وجدت لخدمة مصالحه . تتأسس الدولة الحديثة على مبادئ سيادة القانون ومساواة المواطنين أمامه بصفته المعبر عن إرادة الأمة وقائدها ، وتعد حماية المال العام من أهم الأمور التي تتطلبها التنمية في المجتمعات ، ولو أننا طبقنا منذ زمن قوله تعالى ( وقِفُوهُم إنَّهم مَسْؤولُونَ ) ، لتخلصنا بشكل مرحلي من هذه الآفة الهدامة للوطن وللمجتمع بأسره ، ولأنجزنا كثيرا من المشاريع والخطط التنموية ، لكن الرقابة على المال العام رهينة بمدى تفعيلها وترجمتها إلى واقع ملموس وهو ما يستدعي إيجاد أجهزة رقابية فاعلة ومؤثرة ، كما أنها يجب أن تكون مسؤولية مجتمعية تتولاها مؤسسات المجتمع المدني ووسائل الإعلام والكتاب والمصلحون الاجتماعيون.. إن ( رواسب الماضي وثقل الموروث وتحجر العقليات واستغلال النفوذ ولذة السلطة والتعسف من جانب بعض من يتحملون المسؤولية علاوة على الترهل الإداري ، تجليات ما زالت تمسك بخناق الإدارة الحديثة والمفهوم الجديد لسلطة الأفراد ) ! وينبغي التعامل مع منظومة المحاسبة برؤية واضحة الأهداف كما أرادها الملك ، لأن الإفراط في التسامح، وعدم معاقبة مرتكبي المخالفات انطلاقا من عفا الله عما سلف ، يحبطان ذوي النيات الحسنة وغيرهم من المخلصين والمحبين للوطن ، فليس من المعقول التسامح مع من تلاعب بالمال العام لمصلحته وأزهق الأرواح وأتلف الممتلكات ، كما لا نريد أن تتوقف التحقيقات خوفا من إيقاظ "الوحش" الذي نما وكبر وتعاظم سلطانه لكيلا نكون كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدّ" ! يتمنى كثير من المواطنين أن تحل هذه الأزمة كما أرادها الملك وخطط لها ، الأمر الذي سيؤدي إلى إحداث تغيير في هذا الملف على كافة الأصعدة وفي كل المناطق ، فلابد من وضع حلول جذرية لحالة التردي التي أوصلنا لها بعضهم لعل على رأسها الاختلال في مفهوم المسؤولية والمواطنة اللتين يفصلهما كل واحد من أولئك على مقاسه الخاص ووفق مشاريعه ورغباته ! أخيرا ، ينبغي بناء مؤسسات قوية للمجتمع المدني قادرة على المساهمة في مراقبة المال العام قبل الاعتماد وبعده ، وخلق قوانين جديدة ، مثل التصريح بممتلكات المسؤولين يتضمن إبراء الذمة ، وحرمان المرتشين وناهبي المال العام من الحقوق الوطنية ، ونظام وطني للتقييم والإشراف والمتابعة يتضمن : من أين لك هذا ؟ ، واعتبار الجرائم المالية جرائم ضد الإنسان والوطن بأسره ، وحماية المبلغين عن جرائم الرشوة ونهب المال العام ، وإشاعة ثقافة الأمانة وحماية المال العام في المناهج الدراسية ووسائل الإعلام وفي خطب المساجد التي بدأ غيابها واضحا في هذه الكارثة . ولن تغفر لنا الأجيال القادمة إن نحن فرطنا في حقوقهم فتهاونّا في المحاسبة وسنّ القوانين التي تحفظ ثروات الوطن ومقدراته ..