شغفي بالقراءة يعود إلى إيماني بما قاله الذين ذاقوا لذتها: «الإنسان القارئ تصعب هزيمته»، «قراءتي الحرة علمتني أكثر من تعليمي في المدرسة بألف مرة». بل سئل أحد العلماء العباقرة: لماذا تقرأ كثيرا؟ فقال: «لأن حياة واحدة لا تكفيني»!! في مكتبتي أعيش متعة لا أستطيع أن أصفها، لا ألوم أم سعود حين تغار منها كما قالت زوجة الزهري له: «والله إن هذه الكتب أشدُ علي من ثلاث ضرائر». لا وقت للقراءة عندي، فكل الأوقات التي تصفو لها أهبُها لها مباشرة، مؤمن بالقراءة السريرية فأنا أقرأ كل ليلة قبل أن أنام كتبا أخرى غير الكتب التي أُعدُ منها برامجي وخطبي ومؤلفاتي. وقد يسقط الكتاب من يدي مرارا حتى يغلبني النعاس فأنام. أعلم بعد هذا كله أنني طفل صغير في مدرسة الطنطاوي الذي كان يقرأ أربع عشرة ساعة في اليوم، وعبدالفتاح أبو غدة الذي كان يعيش بين تلال الكتب ومن أراده فليبحث عنه، والألباني الذي قلب فتحة الباب ليوفر خمس خطوات في خروجه ودخوله من أجل أن يصرفها للقراءة، وابن باز الذي لا يفارقه قارئه في ذهابه وإيابه، وبكر أبوزيد الذي التهم آلاف الكتب، وأعرف يقينا أنني عصفور في شجرة ابن الجوزي -رحمه الله- الذي كان يقول: «وإني أخبرك عن حالي: ما أشبع من مطالعة الكتب، وإذا رأيت كتابا لم أره فكأني وقعت على كنز، فلو قلتُ: إني قد طالعت عشرين ألف مجلد لكان أكثر، وأنا بعدُ في طلب الكتب، فاستفدت بالنظر فيها ملاحظة سير القوم وقدر هممهم، وحفظهم، وعاداتهم وغرائب علوم لا يعرفها من لم يطالع». حبي للكتب أتعبني كثيرا، فربما هجرتُ معرضا للكتاب خشية أن أشتري فأزيد من أعبائي النفسية حين أرى ولا أقرأ، كلما دخلت مكتبتي أو خرجت ووقعت عيني على عشرات الكتب المصفوفة أفقيا وعموديا وعلى جنب، أحس بوخزات الندم أني لا أجد الوقت لأقرأ هذا كله. أقرُ بأن تعدد اتجاهات اهتمامتي شتتني بين ألوف الكتب التي اصطفيتُها عبر أكثر من أربعة عقود، فالشريعة موردي، واللغة لساني، والأدب بناني، والأسرة همي، والإدارة قدري، وفضول الاطلاع لدي أشد من أن أكبح جماحه، أقرُ بأنه يتحكم في ولا أتحكم فيه. مكتبتي تقتسمني مع أسرتي، فهي منصة حياتي، منها انطلق إلى آفاقها الرحبة، وأطير من بلاد إلى بلاد، لأبلغ رسالتي الأسرية، مستثمرا تخصصي المزدوج الأدبي والشرعي، وهي مرتع وجداني، تجتذبني من حيث أشعر ولا أشعر، أعيش فيها الساعات الأبقى والأكثر خلودا، إنها البستان الذي تتبرعم فيه أغصان أفكاري، وتتخصب فيها تربة خواطري، لتخطر في حلل الشعر مرة، والنثر مرات ومرات. لم يكن شيئا يسهل نسيانه.. باب مكتبتي في بيتي السابق، الذي أدركته طفولةُ معظم أبنائي وبناتي، حيث حفرت أناملهم الرقيقةُ في خشبه الشائك دوائر صغيرة بقدر عيونهم الجميلة، تشبه عدسات أبواب الفنادق، ليشاهدوني ولو على البعد، حين كنت منهمكا في بحوثي الجامعية. ولم يكن تذكر هذا المشهد هينا على أب، قد ينتهي بالبكاء: قد يعجب العذال من رجل/ يبكي وإن لم أبك فالعجب/ هيهات، ما كل البكا خور/ إني وبي عزم الرجال أب. رحلتي مع الحرف بدأت مع أمي وأبي.. ولن تنتهي بإذن الله تعالى إلا مع آخر أنفاس حياتي.