أبي «وصلت مجهدا من السفر ولم أستطع النوم على السرير المعد لي في المجموعة الطبية التطوعية في مكة، لعدم اعتيادي على هذا النوع من الأسرة».. واسيتُه في الهاتف، وابتسمت في داخلي، يا لها من فرصة ثمينة لاكتساب ما لا يستطيع أن يكتسبه هنا في البيت. في الحج تنشأ مدن كاملة بكل خدماتها وكوادرها البشرية خلال أيام، تضم مكونات بشرية من جميع قارات العالم ومن مختلف الثقافات، تزيد عن مليوني نسمة، تتحرك في مساحة محدودة، تحتشد لإدارتها وخدمتها مئات الآلاف من السواعد الفتية. إلى جوار ما يقارب (60.000) موظف وموظفة من الدولة، تُنصبُ أروقةُ التطوع في كل مشاعر الحج، حيث تزدهر التجارة مع الله تعالى في موسمٍ العمل الصالح فيه أعظم أجرا من كل أيام الدنيا، ويتدفق عشرات الآلاف من الشباب والفتيات من جميع المدن السعودية بمهارات مختلفة؛ ليسهموا في إسعاد الحجاج وليس فقط في خدمتهم، يمتلكون دافعا ذاتيا لا تعرفه إلا القلوب المرتبطة بخالقها، لا يبالون بحر ولا بتعب ولا بسهر ولا بإجهاد، لا تنضب لهم ابتسامة، ولا تكلُ لهم يد، يتسابقون في كل ميدان، يحملون الضعيف، ويسقون الظمآن، ويطعمون الجائع، ويرشدون التائه، ويُفتون السائل، ويُسعفون المريض، وينظِمون السير، لا حصر لألوان تطوعهم، ولا حدود لآفاقه، لا يرجون ذكرا في صحيفة، ولا ظهورا في إعلام. ومن ورائهم مؤسسات حكومية أو أهلية أو خاصة تدعم نشاطهم بالخبرات، والكفاءات العالية، وتوفر لهم أساس الاحتياجات، وتنظم عملهم، ليتسق مع منظومة العمل الحكومي وخارطته الكبرى. دورنا نحن الآباء والأمهات تشجيعهم، ومساندتهم، لنكون شركاء لهم في كل خير يبذلونه بإذن الله تعالى. وفي ذلك تربية لهم، وتطوير لمهاراتهم، وتكوين عملي لشخصياتهم، وبناء لقدراتهم، وصقل لأخلاقيات المهنة التي يؤدونها. تطوع الشباب في الحج فرصة ثرية للتقرب إلى الله تعالى من جانب، وللخروج من القوالب الجاهزة التي نربي فيها أولادنا، التي قد تعطل ملكاتهم أحيانا بالترفه الدائم، وانعدام المسؤولية المجتمعية، والحصول على كل ما يطلبونه بمجرد الطلب. هناك لن يجد الأكل الذي اعتاده، ولا النوم الذي يتجاذب أطراف ليله ونهاره في الإجازة، ولا الألعاب التي أدمن عليها، ولا المركب الهنيء الذي كان يتبختر فيه، ولا حتى الجو البارد الذي كان يختبئ فيه عن لذعات الشمس وسموم الرياح. ليس هناك إلا عمل جاد، ومهام محددة عليه أن يقوم بها، فكونه متطوعا لا يعني أبدا أنه معذور دائما، بل هو محاسب عن التفريط في مسؤوليته التي اضطلع بها، ومربعه الذي أصبح ثغرة في عنقه. هنيئا لوطني العظيم بشبابه وفتياته في كل منعطف من منعطفات التطوع النبيل، وتقبل الله من الجميع.