مما لا جدال فيه أن شركة الزيت العربية الأمريكية (أرامكو) قامت بدور تنموي جبار في المنطقة الشرقية شملت قطاعات عديدة وذلك في بواكير نشوء المجتمعات الحديثة في المنطقة. في مقدمة هذه القطاعات قطاع التربية والتعليم. ذلك أن أحد ملاحق الاتفاقية التي وقّعتها الحكومة مع شركة ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا (أرامكو لاحقا) في 29 مايو 1933 حول التنقيب عن النفط واستخراجه وتصديره تضمن ضرورة قيام أرامكو ببناء المدارس الحديثة في نطاق المنطقة الشرقية وتأثيثها وتجهيزها وصيانتها مع دفع رواتب معلميها وادارييها ثم تسليمها للدولة لادارتها بمعرفتها. وبعد فترة من التردد والتباطؤ بسبب انشغالها بمهمات أكثر أهمية، التزمت أرامكو بهذا البند خير التزام، فراحت تبني مدارس البنين (ولاحقا مدارس البنات) بمستوياتها المختلفة على أحدث التصاميم الهندسية والجمالية وتؤثثها بأرقى الأجهزة والمعدات والأثاث فغدت دور العلم هذه مضربا للأمثال في جمالها ونظافتها وحسن تصميمها وجودة محتواها. البداية كانت مع المدارس الابتدائية التي بنتها الشركة في خمسينيات القرن العشرين في الدمام (مدرسة الدمام الثانية في عام 1954) ثم في الخبر (مدرسة الخبر الثانية في عام 1955) ثم في الثقبة (مدرسة عمر المختار في عام 1956) قبل أن تكر السبحة فتظهر مثيلاتها في مدن المنطقة الشرقية الأخرى مثل الهفوف والمبرز وسيهات ورحيمة وصفوى. ولم يكد طلبة هذه المدارس ينهون الصف السادس الابتدائى ويحصلون على شهادة إتمام الدراسة الابتدائية إلا وكانت في انتظارهم المدارس المتوسطة ليواصلوا فيها تعليمهم. وتعتبر مدرسة الخبر النموذجية المتوسطة، التي اختير لها موقع على أطراف مدينة العمال بالخبر وسط الفلل الحديثة الجميلة التي بنتها أرامكو لمنتسبيها بموجب برنامج تملك البيوت للموظفين والعمال السعوديين، أيقونة هذه المدارس على الإطلاق لجمالها وبهائها وكبر مساحتها الاجمالية. أما الذين قدر لهم الالتحاق بها والدراسة فيها، وهم كثر وشغلوا لاحقا وظائف بارزة في القطاعين العام والخاص، فقد كانوا بحق من المحظوظين. وحينما يسترجع المرء ذكريات تلك السنوات الخوالي في أحضان هذه المدرسة يدرك كم كنا متقدمين على أقراننا في مدن المملكة ودول الخليج الأخرى. فتلك المدرسة لم تكن مجرد مدرسة متوسطة عادية وإنما كانت أقرب إلى الكليات الجامعية في الولاياتالمتحدةالأمريكية، ليس فقط من حيث البناء الهندسي واللمسات الجمالية والساحات الواسعة الملحقة بها، وإنما أيضا لجهة أمور أخرى عديدة مثل المواد الإضافية التي كانت تُدرس للطلبة لتعويدهم على مهارات معينة أو لزرع قيم الجمال في نفوسهم كمواد النجارة والكتابة على الآلة الكاتبة والزراعة وتنسيق الحدائق وغيرها، ناهيك عما كان بالمدرسة من تجهيزات رياضية وملاعب ومختبرات ومكتبة عامرة بمختلف المؤلفات والإصدارات، بل وحتى صناديق lockers لكل طالب كي يحتفظ بها بأغراضه وحوائجه الخاصة على غرار ما هو معمول به في الكليات والمعاهد الأمريكية.. مَنْ يصدق أو يتخيل أن كل هذا حدث في الستينيات.. أي قبل أكثر من نصف قرن تقريبا؟! أضف إلى ما سبق، كانت المدرسة تقدم لطلبتها وجبة غذائية صحية مجانية في منتصف اليوم الدراسي تحت إشراف سيدة أمريكية منتدبة من دائرة الصحة بأرامكو، علما بأنه كان هناك تشديد ورقابة صارمة على عدم تقديم او تناول المشروبات الغازية والعصائر المصنعة المضرة بالصحة، والاكتفاء بالماء أو الحليب. أما الأنشطة اللاصفية فحدث ولا حرج. فمن نشرات الأخبار اليومية إلى صحف الحائط وفنون الخط العربي وصولا إلى الأنشطة الكشفية المعروفة وفرق التمثيل والإنشاد باللغتين العربية والانجليزية. وصلتُ مع غيري إلى هذه المدرسة قادمين من مدرسة الخبر الثانية الابتدائية في العام الدراسي 1963، والبعض جاءها من مدرسة الخبر الأولى الحكومية، كان المبنى مكونا من دورين خلفهما ثلاثة ملاعب منفصلة لكرة القدم وكرة السلة وكرة الطائرة، وأمامها ساحة ترابية واسعة سرعان ما تحولت خلال سنة واحدة إلى جنة خضراء تزينها الأشجار الباسقة وممرات مزروعة بالورود وبعض الخضراوات والفواكه، وذلك بفضل جهود استثمرت فيها سواعد الطلبة في أوقات ما بعد الدوام المدرسي، وخبرة مدرس مادة الزراعة المعلم السعودي سيد عبدالله الهاشم خريج إحدى المدارس الزراعية بالأحساء، وبدعم من مدير المدرسة المربي الفاضل عبدالله عبدالرحمن ابونهية -يرحمه الله- الذي عُرف في الأوساط التربوية بصرامته وحرصه على الضبط والربط وزرع الأخلاق الحميدة في نفوس طلبته. وتشاء الصدف أن ينتقل هذا المربي القدير معنا من مدرستنا الابتدائية المذكورة إلى الخبر النموذجية مديرا جديدا لها، الأمر الذي أشاع في نفوس الطلبة الجادين والمجتهدين الفرح بقدر ما أشاعه من تذمر عند الطلبة المشاغبين، الذين كان المرحوم أبونهية يتوعدهم بقسمه الشهير «والذي فلق البحر لموسى لأفعلن بكم كذا وكذا إن ارتكبتم كذا وكذا». أما الجهة الشمالية للمدرسة فقد كانت بها مدرسة فاطمة الزهراء الابتدائية المتوسطة للبنات التي لم يكن يفصلها عن مدرستنا النموذجية إلا سور من الشبك المغطى قبل أن يُشق شارع بينهما بعد عدة سنوات، بناء على توصية من فضيلة قاضي قضاة الظهران الشيخ عثمان بن إبراهيم الحقيل يرحمه الله. وأتذكر أننا ودعنا هذه المدرسة في عام 1967، بعد أن قضينا بها ثلاث سنوات من أجمل سنوات عمرنا، على وقع هزيمة حزيران التي كان لها تأثير سلبي مرير على نفوسنا ونفوس معلمينا السعوديين والعرب على حد سواء بدليل أن امتحانات شهادة الكفاءة المتوسطة في تلك السنة جرتْ في أجواء كئيبة، فكانت النتائج هزيلة لا ترقى إلى مستوى النتائج المتوقعة من هكذا مدرسة متميزة. من الأشياء الأخرى التي تُحسب لهذه المدرسة أن أساتذتها كانوا مجموعة من خيرة المعلمين من المواطنين ومن أبناء العراق والسودان وسوريا ولبنان والأردن وفلسطين وانجلترا، بل وأيضا من أستراليا (مثل الأستاذ تيرنر مدرس النجارة) والهند (مثل الاستاذ ملهوترا مدرس علوم المختبر) وجنوب أفريقيا (مثل الأستاذ مودلي مدرس التربية البدنية) من أولئك الذين كانوا يحملون من الشهادات ويمتلكون من الخبرات الطويلة ما يؤهلهم للتدريس في الجامعات وليس في مجرد مدرسة اعدادية. ونظرا لأناقتهم الشديدة وحرصهم على مظهرهم فقد كانوا قدوة لنا إلى حد أن بعضنا راح يتشبه بهم ويتمنى أن يكون يوما ما مثلهم.. يعلم وتتخرج على يده الأجيال. ولا أبالغ لو قلت إن صورة المعلم هذه قد اختفت اليوم، إلا فيما ندر، وإن لم تختف فهي في طريقها إلى الاختفاء. ومن الجدير بالذكر، في سياق الحديث عن المعلمين، أن وزارة المعارف السعودية كانت في تلك الحقبة لا تعهد بتدريس مادة اللغة الانجليزية إلا إلى معلمين من الجنسية البريطانية، حرصا منها على تعويد الطلبة على النطق السليم. والحقيقة أن وجود مدرس يعلمك لغته الأم، ولا يعرف شيئا من لغتك كي يترجم لك المعاني والكلمات بالعربية، جعل المتلقي يبذل جهدا أكبر في السؤال والاستفسار والبحث في المعاجم. من الأمور التي أولاها مدير المدرسة المرحوم عبدالله ابونهية عناية خاصة خلال سنوات قيادته للخبر النموذجية تأسيس مكتبة مدرسية عامرة بشتى المؤلفات في مختلف مجالات المعرفة، وذلك انطلاقا من إيمان عميق بأن المناهج الدراسية إن لم يرفدها الاطلاع الخارجي لن تفي بغرض إعداد طلبة مؤهلين لخوض غمار الحياة والتماهي مع متطلباتها. لكن العقبة التي واجهته تمثلت في قلة محتوى المكتبة من المؤلفات والإصدارات المتنوعة. ولأنه كان يعرف أني صاحب خبرة متواضعة كونتها من إدارة مكتبة مدرستي الابتدائية التي كان هو مديرها سابقا، فقد اختارني وعهد إلي بإدارة مكتبة الخبر النموذجية، بل وطلب مني تقديم اقتراحات حول تطوير محتواها، فأشرت عليه بإلزام كل طالب بالتبرع بكتاب واحد على الأقل لمكتبة المدرسة، وهكذا توالت التبرعات واستطعنا تطوير محتوى المكتبة لكن هذا أيضا كان دون الطموح المأمول. فاقترحت عليه فكرة الاستعانة بشركة أرامكو والقنصلية الأمريكيةبالظهران لتزويدنا بما هو متوافر لديهما أو زائد عن حاجتهما. وبالفعل وافق أبونهية على الاقتراح وانتدبني شخصيا إلى الجهتين المذكورتين، وسط حسد وغيرة بعض الزملاء. وهكذا بدأت رفوف المكتبة المدرسية تزدحم بمؤلفات عن صناعة الزيت والجيولوجيا وتاريخ اكتشاف النفط داخل المملكة وخارجها، مع عشرات النسخ من مجلة «قافلة الزيت» الشهرية الرصينة مصدرها شركة أرامكو، إضافة إلى كتب بالعربية في التاريخ والجغرافيا والطبيعة والقانون والفنون والأدب العالمي مصدرها القنصلية الأمريكية. حبسنا دموعنا ونحن نودع الخبر النموذجية في عام 1967 إلى المرحلة الثانوية التي لم تكن لها مدرسة مستقلة آنذاك وإنما مدرسة حكومية متوسطة/ ثانوية في الجزء الجنوبي من الخبر المعروف ب«الصبيخة». وقتها لم يدر بخلدنا أن مدرسة الخبر النموذجية بمبناها الشامخ وحديقتها الغناء التي زرعناها بأيدينا وافترشنا حشائشها سوف تختفي إلى الأبد وستطالها معاول الهدم فنحرم حتى من متعة النظر إليها من بعيد أو تعريف أبنائنا بالمكان، الذي قضينا فيه أجمل سنوات المراهقة. فالذي حدث أن المبنى أزيل بالكامل لبناء مدرسة جديدة بتصميم مختلف يراعي التمدد الأفقي الذي استلزم إزالة الحديقة أيضا. وكان هذا تطبيقا لخطة أرامكو القاضية بإعطاء كل مدرسة تبنيها عمرا افتراضيا معينا يعقبه بناء مدرسة جديدة على أنقاض المدرسة القديمة حتى إن كانت الأخيرة صامدة وصالحة لأعوام أخرى طويلة. الخبر النموذجية في السنة الأولى من افتتاحها (1962).. عدد قليل من الطلبة وواجهة قاحلة صورة من داخل أحد صفوف المدرسة مدير المدرسة الأستاذ عبدالله أبونهية-رحمه الله- يقدم جائزة لأحد الطلبة خلال حفل نهاية العام الدراسي 63 /64 ويبدو بين الحضور عمدة الخبر المرحوم يوسف الدوسري والأديب راشد المبارك وشخصيات من أرامكو والقنصلية الأمريكيةبالظهران (أرشيف عبدالله المدني) بعض أبناء الخبر من طلبة المدرسة يحيطون بمدرسهم في وسط حديقة المدرسة التي زرعوها بجهدهم طلبة فرقة الإنشاد باللغة الإنجليزية مع مدرسهم البريطاني مايكل في عام 1963