في ظل الأزمات والحوادث وفي خضم المجريات التي تعصف بالأمم والشعوب، تسعى تلك الدول والشعوب لتماسكها وبقائها وديمومتها، ولا يتأتى لها ذلك إلا من خلال ترابط وتماسك أبنائها ومواطنيها مع بعضهم البعض نحو وجهة ورؤى معلومة ونيرة. قبل أيام وفي شهر رمضان المبارك كانت مبادرة «تفريج كربة» والتي كان الهدف منها تفريج كربة السجناء ممن لحقتهم الديون والديات ومن أصحاب الغرم، والتي كان لها أصداء وانتشار واسع وملموس، حتى طالت مناطق عدة ونالت استحسان الجميع، وشدد على أهميتها الصغير قبل الكبير، وساهم فيها الفقير قبل الغني، والمعوز قبل الواجد، فهي تُعد من النفع المتعدي الذي هو أفضل وأنفع من النفع القاصر على صاحبه، فتفريج كربة السجين تفريج له ولمن وراءه من زوجة وعيال وغيرهم ممن يعول. إن هذه المبادرة هي بالفعل ما يحتاجها الوطن لتمساكه وتعاضده لا ما نسمعه من أصداء لشعارات رنانة وزخرفات وعبارات مزوقة لا تسمن ولا تغني من جوع، وإن النفوس التي تجود بهذا المال تدل أيما دلالة على سماحة النفس وكرمها وهو مؤشر ودلالة على الخير الذي يكنه الناس بينهم، وهو دعم لمسيرة الإصلاح والتنمية لهذا الوطن، وكونها مساهمة ومبادرة مجتمعية فهي أيضاً مشاركة للدولة في حمل شيء من الثقل واستشعار بعض أدوارها الحيوية التي تقوم بها تجاه بعض شرائح المجتمع، وهي رسالة مد يد العون لهؤلاء المكروبين، فحواها أنكم لستم لوحدكم وأن هناك من يهتم لأمركم ومن أجلكم. وإن من الجميل أن نرى بين الحين والحين مبادرات وجهودا من أوساط المجتمع يتعدى نفعها القاصي والداني تجنى ثمراتها للأجيال القادمة وتكون نبراساً للمجتمعات الأخرى، يكون للعلماء والأمراء فيها أوفر الحظ والنصيب فهم القدوات وهم أولو الحجى والملمات، وقد روي أنه كان لأبي حنيفة رحمه الله جار إسكافي يعمل نهاره أجمع فإذا جنه الليل، رجع إلى منزله بلحم وسمك فيطبخ اللحم ويشوي السمك فإذا دب فيه السكْر أنشد: أضاعوني وأي فتى أضاعوا... ليوم كريهة وسداد ثغر. ولا يزال يشرب ويردد البيت إلى أن يغلبه السكْر وينام، وكان الإمام أبو حنيفة يصلي الليل كله، ويسمع حديثه وإنشاده، وفي بعض الليالي فقد صوته فسأل عنه فقيل له: أخذه العسس منذ ثلاثة أيام وهو محبوس، فصلى الإمام الفجر وركب بغلته ومشى واستأذن على الأمير فقال: ائذنوا له فلما دخل على الأمير أجلسه مكانه وقال: ما حاجة الإمام فقال: لي جار إسكافي أخذه العسس منذ ثلاثة أيام أفتأمر بتخليته فقال: نعم وكل من أخذ تلك الليل إلى يومنا هذا ثم أمر بتخليته وتخليتهم أجمعين فركب الإمام وتبعه جاره الإسكافي فلما وصل إلى داره قال له الإمام أبو حنيفة: أترانا أضعناك قال: لا بل حفظت ورعيت جزاك الله خيرا عن صحبة الجوار ورعايته ولله علي ألا أشرب بعدها خمرا فتاب من يومه ولم يعد إلى ما كان عليه.