وينشأ ناشئُ الفتيانِ منَّا/ على ما كان عوَّده أبوه. و«الأب» في هذا النص تعبير مجازي، فهو البيت والمدرسة والشارع والثقافة السائدة. وكل العوامل الاجتماعية التي تنقش شاراتها في الذاكرة. يعبر المتنبي عن المعنى نفسه بكلمات أخرى فيقول: «لكلِّ امرئٍ من دهره ما تعوَّدا». ويشدُّ عن هذه القاعدة المهيأ عقليا للإفلات من غايات المبرمجين، أي من يأبى أن يكون حلم غيره، أو أن يخضع لعملية غسيل دماغ، باعتبار ذلك انتهاكا صارخا لفرديته، وتعديا على استقلاله وإرادته الحرة وتميزه. ذلك أن من شروط حماية الفردية الفكاك من أَسْر العادات والمفاهيم والأفكار التي لا تتناغم مع ثقافة الفرد وأسلوب تفكيره. لا تتاح للفرد المختطف عقليا حرية اختيار العادات والمفاهيم والمسلَّمات التي نشأ عليها، أو فرصة المفاضلة بينها وبين غيرها، لكنه يتعصب لها، وربما مارس العنف لإثبات أنها الأفضل. وسواء ولد المرء في بكين أو بومبي أو باريس فإنه لم يختر مكان ولادته ولا العادات التي نشأ عليها. ومع ذلك سيجد دائما من يلقنه بأن عاداته ومفاهيمه هي النموذج الذي ينبغي على العالم استنساخه. لذلك يتشكل لدى بعضهم نوع من الاعتداد والغطرسة العرقية والثقافية المضحكة التي غالبا ما تؤدي إلى نتائج كارثية. فكأن القبول بأية حقائق جديدة ومفاهيم مختلفة يعني التخلي عن الذات وانتفاء تلك الأفضلية المزعومة. وغالبا ما يصاحب تلك الغطرسة اندفاع لا يتيح فرصة لأي شكل من أشكال المفاضلة. وفي هذا السياق يرى الفيلسوف الصيني كونفوشيوس أن «طبائع الناس توحدهم، وعاداتهم تفرقهم». نعم، تفرقهم لأنها تتخذ منحى آخر تصبح فيه أمرا ملزما، ومعيارا لقياس الخطأ والصواب لا يجوز تجاوزه. كذلك تفعل نظم التربية والتعليم فعلها. وكمثال على تأثير تلك النظم، فإن الجيل الذي ولد في أوربا الشرقية بعد انهيار جدار برلين وانفراط عقد المعسكر الشرقي، لا يشبه في تفكيره الجيل الذي ولد قبل ذلك بعقود، أي الجيل الذي عاش في ظل تقاليد شمولية عريقة. آنذاك، لم يستثنِ المبرمجون حتى نزعة الفن الفردية. كانت تلك النزعة تزعجهم، وكان المُدَجّن، أو «الأخ الأكبر» كما يسميه جورج أورويل، يخطط لوأد تلك الفردية الفنية في مهدها. أما المفارقة العجيبة فهي أن يكون المرء حلمَ غيره لكنه يندفع إلى تحقيق ذلك الحلم بتلك الحماسة المفرطة. لا تعريف لذلك الاندفاع سوى أنه المنتج السحري ل«غسيل الأدمغة» الذي ما زال مستمرا في صيغ وقوالب مختلفة. وللحديث بقية.